“تعادل مرير” بين تل أبيب و”حزب الله”.. مذاق حامض يخيم على الإسرائيليين

الأربعاء 27 نوفمبر 2024 03:59 م / بتوقيت القدس +2GMT
“تعادل مرير” بين تل أبيب و”حزب الله”.. مذاق حامض يخيم على الإسرائيليين



القدس المحتلة/سما/

بعد 14 شهرًا من الحرب ومن الحملة البرية “سهام الشمال”، أقفلت إسرائيل النار على الجبهة اللبنانية، ودخلت حيز التنفيذ منذ ساعات اتفاقية وقف إطلاق النار، التي تشبه إلى حد بعيد نهاية حرب لبنان الثانية عام 2006، والتي انتهت بقرار 1701، وهو أساس الاتفاق الجديد اليوم.

بموجب الاتفاق، تنسحب إسرائيل تدريجيًا من جنوب لبنان، ويغادر “حزب الله” إلى شمال الليطاني، حيث تحلّ قوات الجيش اللبناني تدريجيًا مكانه خلال 60 يومًا. لم يتضمن الاتفاق الشرط الإسرائيلي بالاحتفاظ بحق التدخل العسكري “دفاعًا عن النفس”، كما بقي جنوب لبنان دون منطقة أمنية عازلة، فيما يحتفظ “حزب الله” بما تبقى لديه من سلاح في شمال الليطاني.

في المقابل، الاتفاق ليس هو الأهم بالنسبة لإسرائيل، حيث تخطط لانتهاك السيادة اللبنانية متى ترى ذلك مناسبًا. هذا ما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عدة مرات، آخرها ليلة أمس، وسط استغلال الاتفاق لحيازة الشرعية لمعاودة الهجمات. لذلك، يبقى القول الفصل للميدان، ولليوم التالي. ويبقى السؤال الأهم: كيف سيتم تطبيق الاتفاق؟ إذ يبدو من المستبعد أن يحترم الاتفاق من قبل الأطراف، بعكس ما حدث في الماضي، وبعكس القرار الأممي 1701، الذي بقي مجرد ورقة.

مذاق مختلط
رغم أن لبنان تعرّض لأذى شديد، حيث نزح مليون ونصف مليون لبناني جراء القصف الإسرائيلي المدمر، واضطر “حزب الله” لفك الارتباط عن غزة، وتعرّض لضربات أشدّ مما تعرّض له في حرب 2006، إلا أن إسرائيل لم تنجح في حسم المواجهة. كما تكبّدت إسرائيل بدورها خسائر مادية ورمزية أثّرت على مكانتها وهيبتها وقوة ردعها.

“نتيجة التعادل” هذه بين إسرائيل و”حزب الله” تفسّر الإحساس بتفويت الفرصة، والمذاق الحامض، والمشاعر المختلطة في إسرائيل حيال هذا الاتفاق لوقف إطلاق النار، الذي يُبقي اللبنانيين على بعد متر واحد من الجليل، ويجعل “حزب الله” قادرًا على بناء نفسه من جديد، وربما في نقاط التماس نفسها، ما يسبّب فقدان الشعور بالأمن.

وقد عبّر عن ذلك رئيس السلطة المحلية للمستوطنة الأولى في الجليل، المطلة، اليوم، بتشكيكه، كبقية رؤساء الحكم المحلي الإسرائيلي في الشمال، حيث قال إن الاتفاق ربما يوفر الهدوء، لكنه لا يضمن الأمن، ولا ينزع الخوف من نفوس الإسرائيليين.
الإسرائيليون، وفق استطلاعات الرأي، يرفضون العودة إلى منازلهم رغم الاتفاق، الذي يرونه يعيدهم إلى نقطة البداية دون تغيير يُذكر، تمامًا كما كان الحال غداة حرب لبنان الثانية.

لماذا الآن؟
لماذا أوقفت إسرائيل الحرب على لبنان الآن، بعد شهرين وثلاثة أيام من الحملة البرية؟ ولماذا تواصل حربها المتوحشة على قطاع غزة؟

في روايته الرسمية المعلنة، قال رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ليلة أمس، في خطاب شعبوي ترويجي، إن هناك ثلاثة أسباب لوقف إطلاق النار، وليس الحرب، في الشمال: التفرغ للتهديد الأكبر، إيران، ملء المخازن بالسلاح والعتاد، وفك الارتباط مع غزة لمنع وحدة الساحات.

بيد أن الحقيقة في مكان آخر؛ فالجيش الإسرائيلي بات متعبًا نتيجة حرب طويلة على عدة جبهات بأعباء ثقيلة، واستنفد أهدافه في لبنان. صار الجيش، في الأسابيع الأخيرة، يستهدف أبراجًا وعمارات، ودفع ثمنًا باهظًا في الحملة البرية، حيث لم يمر يوم في الشهر الأخير دون أن يُقتل أو يُصاب جنود إسرائيليون، فيما استمر النزيف الاقتصادي والدبلوماسي.

علاوة على ذلك، تعرّضت إسرائيل لإرباك في هيبتها، خاصة مع المسيّرات والصواريخ التي وصلت أهدافًا في عمقها، بما في ذلك منزل نتنياهو الخاص، وشوّشت الحياة الاعتيادية لملايين الإسرائيليين.

في الشهر الأخير، لاحظ الجانب الإسرائيلي أيضًا أن الصورة بدأت تنقلب؛ فـ “حزب الله” ينهض، ويعيد ترتيب أوراقه بعد الضربات الموجعة والمفاجآت القوية التي تعرّض لها، بينما تهبط إسرائيل وتفقد مكاسبها.

كذلك، هناك خوف إسرائيلي من تهديد أمريكي غير صريح بعدم استخدام الفيتو في مجلس الأمن إذا رفضت إسرائيل الاتفاق المقترح مع لبنان. هذا ما دفع نتنياهو للتلميح مجددًا ضد الإدارة الأمريكية، ليلة أمس، في إشارته إلى وقف شحنات السلاح.
مقابل “عصا” التهديد الأمريكية، قدمت واشنطن “جزرة” كبيرة للاحتلال على شكل موافقة على شحنات سلاح كانت عالقة، والأهم مذكرة دعم تمنح الضوء الأخضر لإسرائيل بـ “سورنة” لبنان ومهاجمته متى اقتضت الحاجة للدفاع عن نفسها.
هذا ما أكده الرئيس الأمريكي جو بايدن في كلمته أمس، وسبقه نتنياهو أيضًا في تصريحاته التي قال فيها إن الحرب لم تنتهِ، وإن إسرائيل ستعود لها بقوة عند انتهاك الاتفاق.

موقف الإسرائيليين
يعرب معظم الإسرائيليين عن مشاعر عدم الرضا وخيبة الأمل من الاتفاق ومن نتيجة الحرب الدامية مع “حزب الله”. وفق استطلاع أجرته القناة 13 العبرية، قال 60% من الإسرائيليين إن الحرب لم تحسم، فيما أظهرت نتائج استطلاع آخر للقناة 12 العبرية أن 50% يشاركون الرأي نفسه.
وعند الإجابة عن السؤال المركزي “كيف انتهت الحرب حسب رأيك؟”، أظهرت الاستطلاعات أن 20% فقط من الإسرائيليين يرون أن إسرائيل انتصرت في الحرب، بينما قال 19% إنها خسرت المواجهة مع “حزب الله”، و11% أجابوا بـ “لا أعرف”.
وتأتي هذه الأجواء “الخريفية” والمشاعر “المنقبضة” في إسرائيل نتيجة لحقيقة أن الحرب استمرت 14 شهرًا، وهي مدة تعادل طول كل الحروب الإسرائيلية مجتمعة. كما كانت الحرب مكلفة، حيث اضطرت إسرائيل في الجبهتين الفلسطينية واللبنانية إلى إخلاء، أو خسارة مناطق في الجليل والنقب الغربي، ودفع كلفة عالية مقابل أهداف ناقصة.
وعبّر رئيس حكومة الاحتلال الأسبق، إيهود أولمرت، عن هذه المشاعر، في حديث للإذاعة العبرية اليوم. وعبّر عن “المذاق الحامض” الذي يشعر به الإسرائيليون تجاه الاتفاق بقوله: “كان بالإمكان التنازل عن الحملة البرية ومنع مقتل الكثير من جنودنا خلالها، لأنه، في نهاية المطاف، يمكن التوصل إلى النتيجة ذاتها، والاتفاق من خلال القصف الجوي”.

نعم في لبنان.. لا في غزة
في الجبهة الفلسطينية، لم يعد هناك مبرر عسكري وأمني لاستمرار الحرب على غزة، إنما هي حسابات أيديولوجية ترتبط بالطمع بالاحتلال والتوسّع، وببناء حكم عسكري، واستيطان جديد في غزة، وحسم الصراع مع الفلسطينيين بالتهجير والمذابح، وبإيقاع نكبة جديدة عليهم. هذا لجانب حسابات سياسية فئوية: استبعاد لجنة تحقيق رسمية تهددّ بإسقاط نتنياهو من الحكم ومن التاريخ، ولذا يتساوق مع سموتريتش وبن غفير وغيرهم من المعارضين لإنهاء الحرب وللصفقة مع “حماس”، فهم في قرارة أنفسهم يخشون جداً من صور الأسرى الفلسطينيين وهم يخرجون في حافلات مع شارة الانتصار بعد إتمام صفقة مع “حماس”.

وتتساءل أوساط إسرائيلية كثيرة اليوم: لماذا يوقف الاحتلال النار في الشمال ويواصلها في الجنوب؟
تتهم المعارضة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتسيس الموقف، وترى أن المنطق مقلوب، وتتساءل: كيف يمكن وقف الحرب في لبنان، بينما “حزب الله” ما زال على قدميه يطلق النار بكثافة، فيما تستمر الحرب في غزة دون مبرر، رغم تبدّد تهديد “حماس”، ووجود عشرات المخطوفين الإسرائيليين؟
هذا ما قاله رئيس المعارضة يائير لبيد، اليوم، وكذلك النائب المعارض قائد الجيش السابق غادي آيزنكوت، الذي صرّح لموقع “واينت” قائلاً: “لو مشينا حسب صيغة نتنياهو (بايدن)، في أيار، لكان المخطوفون بيننا اليوم”، مشددًا على أن “هذه الحكومة لن تعيد المخطوفين”.
ويضيف آيزنكوت، مشكّكًا هو الآخر في الاتفاق مع لبنان: “لا أعتقد أن جيش لبنان سيفكّك سلاح حزب الله”، محذرًا من أطماع اليمين والمستوطنين: “سيادة على الضفة الغربية تعني نهاية الحلم الصهيوني”.
وفي أوساط الرأي العام، يُطرح هذا السؤال اليوم بقوة أكبر، فتقول المعلقة في” يديعوت أحرونوت”، سيما كادمون، في مقال بعنوان “القلب مع الشمال”: “إنها تتفهّم رفض سكان الشمال العودة قبل التثبت من عدم إطلاق صواريخ عليهم وعدم اقتحام “حزب الله” منازلهم، لكن لا يوجد بديل”.

وتتساءل كادمون: لماذا لا يفعل نتنياهو مع غزة ما فعله في لبنان؟ لماذا يمكن العودة للقتال في لبنان عند الحاجة، بينما لا يمكن وقف الحرب في غزة من أجل استعادة المخطوفين؟
وتجيب عن ذلك باختصار: “ببساطة، نتنياهو لا يريد”. وتتهم كادمون نتنياهو بالمقايضة والتنازل عن الرهائن في مجمل علاقاته مع اليمين المتطرف: “يقدم نتنياهو لبنان مقابل غزة، “حزب الله” مقابل “حماس”، ويقدم المخطوفين مقابل المحافظة على حكمه، بالتنازل عنهم”.
ويعبر عن الحسابات الغريبة والموازين المختلة رسم كاريكاتيري نشرته يديعوت أحرونوت، تظهر فيه سيدة في الأسر موثقة اليدين على أرضية نفق مبلل بماء الشتاء، وهي تقول: “فقط هنا يواصلون حتى النصر المطلق؟”.

ويطرح محلل الشؤون السياسية في صحيفة “هآرتس” يوسي فرطر ذات السؤال عن الجبهتين بقوله إن نتنياهو أنهى الحرب في لبنان باتفاق مليء بالثغرات، لكنه يعاند في مواصلة الحرب على غزة. ويمضي في انتقاداته: بسرعة البرق، ودون أن يرتجف له جفن، ينهي نتنياهو الحرب في لبنان، وبسخرية وغلظة قلب وبلادة إحساس يرفض إخراج الجيش من القطاع، فيما يواصل بن غفير وسموتريتش إملاء الخطوات على نتنياهو الذي يواصل إهمال مواطنيه”.

ارتباك في الليكود
وتلخص زميلته في الصحيفة، المعلقة رافيت هخت، بالقول إن هناك حالة ارتباك واضحة لدى وزراء ونواب اليمين والليكود، وهم على الأقل غير فخورين جداً بهذا الاتفاق المنافي لروح جمهور اليمين.. وللنصر المطلق، والمنافي لموقف معظم رؤساء الحكم المحلي في الشمال.
وبرأيها، تتجلّى حالة الإرباك في رفض عددٍ كبير من الوزراء دخول قائمة المعقّبين الداعمين للاتفاق مع “حزب الله” علانية.
كعادته، عاد نتنياهو للتلويح بقصة إزالة التهديد الإيراني كذريعة لإهمال بقية المشاكل.
وتتساءل هي الأخرى؛ لماذا يمكن العودة للقتال في لبنان متى شئنا، أو احتجنا، أما في غزة، حيث إخوتنا المخطوفون في محنة كبيرة داخل الأنفاق لمدة طويلة، فلا يمكن؟!
وتدعو “هآرتس”، في افتتاحيتها، لوقف الحرب على غزة الآن لأسباب براغماتية وأخلاقية.