التغييرات الدراماتيكية التي جرت بوتيرة متسارعة في السعودية لم تكن مجرد تغييرات في نظام الأسرة الحاكمة بل كانت بداية لعهد جديد مختلف كلياً على المستوى الداخلي والخارجي عن النظام السابق، من خلال إحداث تغييرات كبيرة وشاملة في الديوان الملكي والجيش السعودي عبر تولي الأمير محمد بن سلمان الذي يمثل الجيل الثالث رئاسة الديوان الملكي ووزارة الدفاع، إضافة لتصعيد سعودي سياسي وعسكري ضد إيران وقطر عبر شنّ عملية عاصفة الحزم التي انطلقت بعد أسابيع قليلة من تولي الملك سلمان مقاليد الحكم لمواجهة التمدد الإيراني في المين.
إن العهد الجديد سيطال التكوين السياسي لنظام الحكم، الذي سيتحول حتماً من نظام ملكي وراثي إلى نظام سياسي ليبرالي، وهو ما يتطلب تحول في الفكر والسلوك الاجتماعي من فكر تقليدي محافظ إلى فكر ديمقراطي حديث، هذا التغيير يجب أن يسبقه تغيير في آليات اتخاذ القرار وتغيير في الكثير من القوانين؛ لتهيئة الأجواء السياسية والاجتماعية لإقناع المجتمع واعطائه فرصة للتغير نحو الحداثة واللبرلة، ومن أجل سيطرة ولي العهد على مقاليد الحكم، وبهدف تمرير رؤيته الجديدة بالعهد الجديد قام ولي العهد بجملة اجراءات جديدة أهمها حملة اعتقالات واسعة بين الوزراء والامراء، وحملة اعتقالات واعفاءات موازية لرجال الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى جانب السماح للمرأة السعودية قيادة السيارة، وفتح دور السينما والأغاني وغيرها من الاجراءات والقوانين الإجراءات الخارجية لم يكتف ولي العهد بالاستئثار بالحكم والتغيرات الداخلية التي أحدثها في النظام السياسي، بل صاحب هذه التغيرات اجراءات خارجية متهورة، فقد شن هجوماً على اليمن ضمن تحالف مع مصر والامارات والبحرين، وفرض حصاراً على قطر ضمن نفس التحالف، وأجبر رئيس الوزراء اللبناني لتقديم استقالته بهدف تمزيق النسيج الاجتماعي والوطني للمجتمع اللبناني، وحدوث اقتتال وحروب داخلية.
التطبيع مع إسرائيل وتمادى ولي العهد في سياسته المراهقة بمهاجمة إيران ودفع مليارات الدولارات للولايات المتحدة الأمريكية بهدف تثبيت حكمه وتحريضها على إيران لإلغاء الاتفاق النووي معها وضربها وتغيير نظام الحكم فيها، وحتى تقبل الولايات المتحدة بذلك وافقت على أن تتصالح مع إسرائيل وأن تطبع معها وأن تتحالف معها في حلف واحد لضرب إيران وأدواتها في المنطقة (حزب الله- سوريا).
صفقة القرن وفي سبيل ذلك قبلت السعودية بكافة الاملاءات التي فرضتها عليها الولايات المتحدة الأمريكية، فلم يكن التطبيع مع إسرائيل ولا التحالف معها ضد إيران آخر هذه الاملاءات بل وافت السعودية على ما يسمى بصفقة القرن وقدمت القضية الفلسطينية قرباناً للولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها إسرائيل، وكانت القدس وبيعها أولى ضحايا هذه الصفقة، فالسعودية وحلفاؤها وحدهم من يعلموا بصفقة القرن، ففي الرسالة الموجهة من وزير الخارجية السعودي للملك وولي العهد الذي يقر بها بالتنازل عن القدس ويحاول أن يجد مخرجاً لذلك باعتبار القدس الشرقية يجب تدويلها حسب قرار التقسيم 181.
إن صفقة القرن هي أسوأ صفقة قدمت للفلسطينيين طوال المسيرة السياسية، ويمكن تلخيصها كالتالي:
أولاً: القدس عاصمة موحدة لإسرائيل وهو ما أعلن عنه ترامب بالاعتراف بذلك ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس.
ثانياً: إلغاء حق العودة وتوطين اللاجئين في الدول المقيمين فيها.
ثالثاً: لا سيادة ولا حدود ولا تواجد للفلسطينيين على الأغوار والبحر الميت مع الأردن.
رابعاً: دولة فلسطينية في غزة الكبرى التي سيصبح مساحتها حوالي (1000) كم2 تقريباً، بعد إضافة (720) كم2 من أراضي سيناء عليها، ويكون لها ميناء بحري وبري. يكون الأمن الداخلي للفلسطينيين والسيادة والأمن الخارجي لمصر.
خامساً: حكم ذاتي في مناطق (أ، ب وبعض مناطق ج في الضفة الغربية)، يكون الأمن الداخلي للفلسطينيين، والسيادة والأمن الخارجي للأردن.
سادساً: استبدال الأراضي ستحصل مصر على 720 كم2 تقريباً في أرض النقب بدلاً من الأرض المقتطعة من سيناء وهي (720) كم2، فيما ستحصل إسرائيل بدلاً من صحراء النقب على أراضي استراتيجية وحيوية مناطق حول القدس وضواحيها (720) كم2 أيضاً من مناطق الضفة منطقة (ج).
سابعاً: ستبقى المستوطنات في مناطق (ج) قائمة تحت السيادة والأمن الإسرائيلي. انهيار النظام السياسي إن الاجراءات الداخلية التي تقوم بها السعودية قد تؤدى إلى نتائج وخيمة، فعلى الرغم من أن الاعتقالات التي قام بها محمد بن سلمان تنال شخصيات بارزة دون أفراد من الشعب، إلا أن هؤلاء الأشخاص لديهم تأثيرات كبيرة على قطاع لا يستهان به من المؤيدين والمحبين خاصة أن منهم عدداً كبيراً من الدعاة واسعي التأثير، ولكن إذا ما تطورت حملة بن سلمان لتشمل جمعاً من المواطنين فإن هذا يمثل تحفيزاً كبيراً لاندلاع أي انتفاضة ضده.
كما أن الأوضاع الاقتصادية التي بدأت في التراجع بالمملكة خلال الأعوام القليلة الماضية، سيكون لها تأثير إذا لم يتم تداركها خاصة مع ارتفاع معدل البطالة. إن توقف الحكومة السعودية عن دفع الأموال للمواطنين، وتأمين وظائف لهم سيكون له تأثير كبير على الولاءات السياسية، واستمرار استقرار حكم آل سعود، خصوصا أن حملة الاعتقالات وإسكات الأصوات المعارضة التي شهدتها السعودية مؤخرا جاءت بسبب حالة التقشف.
وأخيراً فإن هناك تخوفات لدى المراقبين، أن يكون تلاعب محمد بن سلمان في الهوية السعودية والعمل على تغيير البنية الفقهية والفكرية التي تكونت منذ تأسيس المملكة بمحاولة عنيفة للتحول إلى "اللبرلة" قد تسرع عدم الاستقرار في السعودية خلال الفترة المقبلة، في ظل رفض المجتمع المحافظ لهذه الخطوات بما يدفع إلى تزايد الغضب تجاه الحكم الحالي، وربما يؤثر باتباع خطوات أكثر عنفاً. التحول نحو اللبرلة والحداثة لكن يبقى الاحتمال الآخر الأكثر تفاؤلاً وهو رضى المجتمع السعودي بالإجراءات التي يقوم بها ولي العهد من محاربة الفساد وانتقال المجتمع من الحالة التقليدية المحافظة إلى مجتمع الحداثة والتقدم، وانتقال النظام السياسي من نظام الأسرة الفاسدة المالكة إلى النظام الديمقراطي الليبرالي، نظام المؤسسات والتعددية السياسية، والانتقال السلمي للسلطة، وهذا يتطلب أن تتحول السعودية إلى دولة المؤسسات، ويبقى السؤال هل سيقدم ولي العهد على ذلك؟، أم سيجري بعض التعديلات التي تتعلق بالانفتاح الشكلي والنسبي؟ والسؤال الآخر هل سيتقبل المجتمع المحافظ عملية الانتقال السريعة ليصبح بين ليلة وضحاها مجتمع مؤسسات؟ وإذا ما تقبل المجتمع ذلك بحكم شغفه للتخلص من نظام الأسرة المالكة، هل سيستوعب ثقافة الديمقراطية.
إن الديمقراطية ثقافة لا يتقبلها إلا من تربى عليها منذ الصغر، لذلك وجب تربية الأجيال الصاعدة على الديمقراطية ونظام الحداثة قبل تنفيذ ذلك وإلا أي إجراءات من هذا القبيل سيؤدي إلى الانهيار الحتمي للمجتمع وتمزيق بناءه. السقوط الأخلاقي والغرق في الوحل قد تؤدي الإجراءات الخارجية من ضرب لليمن والتدخل في شؤون لبنان وسوريا والتحالف ضد إيران إلى الغرق في الوحل الإيراني بعد تخلي حلفاء السعودية الوهميين أمريكا وإسرائيل عنها، وهو ما سيؤدي بالتأكيد إلى انهيار السعودية وتقسيمها إلى دويلات، وستصبح منطقة الذمام شرق السعودية الغنية بالنفط والثروات الطبيعية، ذات الأغلبية الشيعية أحد أدوات إيران في المنطقة لتصبح إيران أكثر تمدداً وتوسعاً، وسيصاحب سقوط السعودية سقوط البحرين ذات الأغلبية الشيعية، كذلك من الممكن سقوط أنظمة أخرى كالإمارات.
إن السقوط الأخلاقي وتورط جيوش الدولة في حروب خارجية إضافة إلى عدم الاستقرار الداخلي أهم الأسباب التي تؤدي إلى انهيار الدولة مهما كان عظمتها وقوتها، ولأن السعودية هي بلاد الحرمين وقبلة المسلمين فإننا لا نتمنى لها أي مكروه؛ لكننا نتمنى عليها أن تعيد حساباتها جيداً، فشرعيتها ومكانتها لا تحصل عليها من أمريكا ولا من التطبيع مع إسرائيل وإنما من شعوبها وقضاياهم، وهنا نقدم نصيحتنا للسعودية بأن تعود لرشدها السياسي، من خلال:
- فتح حوار شامل مع إيران والتوصل لاتفاقية تنهي حالة الخلاف والأزمات المختلقة.
- التوقف عن اللهث وراء التطبيع مع إسرائيل فهي عدو الأمة المركزي وهي سرطان الأمة.
- التوقف عن هدر المال العربي لأمريكا ولأسلحة لا يستفيد منها إلا إسرائيل وأمريكيا.
- عدم البيع والمتاجرة بالقضية الفلسطينية فالشعوب لا تغفر والتاريخ لا يرحم أحد.
- عدم الثقة بأمريكيا وإسرائيل فهم أصحاب ثقافة واحدة وصراعنا معهم صراع حضاري وديني.
- الاعتقاد بأن الشرعية تكتسب من أمريكا هو اعتقاد خاطئ فالشرعية تكتسب من الشعوب وتبني قضايا الأمة والدفاع عنها.