ما أن أعلن البيت الأبيض، قبل حوالي الأسبوعين، عن إستراتيجية الأمن القومي الأولى في عهد الرئيس ترامب، والذي ألقى خطاباً تقديمياً لها، حتى بدأت آراء المحللين تتوالى حول عدم تناغم متضمنات هذه الإستراتيجية مع الكثير من أفكار وتصريحات ترامب، ما يجعلها لا تعبّر بالضرورة عنه، أو تحدّد المسار المستقبلي لسياساته. والدليل الذي استند إليه هؤلاء هو خطاب الرئيس المرافق للإعلان عن هذه الإستراتيجية، والذي اشتمل على تناقضات معها. وقد وصل الحدّ بهؤلاء لدرجة التشكيك بمدى إطلاع الرئيس على ما تحتويه هذه الإستراتيجية من أفكار ومواقف، وإن كان قد قرأها قبل أن يتم الإعلان عنها. وكان جواب مسؤول في مركز إعلام البيت الأبيض التأكيد على اطلاع الرئيس على الوثيقة، وربما قراءته لأجزاء منها.
على كلٍ، هذا لا يُعيب الوثيقة ذاتها، والتي أشرف على صياغتها فريق مختص برئاسة مستشار الأمن القومي، الجنرال ماكماستر، لأنها من المفترض أن تُعبّر عن رؤية الإدارة الأميركية، برئاسة الرئيس، حول الولايات المتحدة كدولة عظمى، وعن العالم ومبادئ ومنطلقات منظومة العلاقات الدولية السائدة فيه، ودور الولايات المتحدة في هذا العالم. ويجدر الاعتراف أن فريق الإعداد نجح بتمّيز في طرح رؤية متماسكة لإستراتيجية أمن قومي أميركي، إذا ما أُخذ بالاعتبار أن المنطلق كان يتطلب الاستناد إلى أفكار ترامب المشتتة والمتشعبة، وحتى المتضاربة، في رؤيته للعالم ومرتكزات السياسة الدولية التي تتحكم فيه. لقد قام هذا الفريق، وبصورة لافتة، بلملمة هذه الأفكار وتشذيبها وصقلها، وأضاف عليها، وأخرج الناتج في وثيقة منظمة ومتسقّة.
لذلك، يجب أخذ الرؤية والأفكار المتضمنّة في هذه الوثيقة على محمل الجدّ، وباهتمام شديد. فهي، بغضّ النظر عن مدى دور الرئيس ترامب في تشكيلها، تُعبّر عن التفكير الإستراتيجي للإدارة الأميركية الحالية، في كيفية رؤيتها للعالم، ولدور الولايات المتحدة وشكل انخراطها فيه. وإذا ما تمّ العمل بمقتضيات هذه الوثيقة في تحديد السياسة الخارجية الأميركية، ويبدو أن هذا هو الحاصل فعلياً حتى الآن، فإن العالم سيكون على أعتاب مرحلة جديدة، شائكة، ومضطربة في العلاقات الدولية.
***
ترتكز إستراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة على مبدأ أساسي، منحوت بشكل خاص لها، تُعرّفه بـِ "الواقعية المبدئية"، وهو خليط يأتي من مدرستين تُعنيان بالعلاقات الدولية، الواقعية والليبرالية، ولكن مع انحياز واضح باتجاه المدرسة الواقعية. تنطلق "الواقعية المبدئية" من منطلقين: الأول يُعطي عامل القوة الدور المركزي في السياسة والعلاقات الدولية، والثاني يقول بأن نشر المبادئ والقيم الأميركية يؤدي إلى استتباب السلام وتحقيق الرخاء في العالم.
من "الواقعية المبدئية" تنطلق هذه الإستراتيجية متبنّية نظرة تشاؤمية عن العالم والعلاقات الدولية فيه. فهي تنظر للعالم كمكان غير مستقر وخطِر، لا يتشكّل كما كان يُعتقد في الإستراتيجيات الأميركية السابقة، وخاصة إستراتيجية إدارة أوباما، من "مجموعة دولية" تنتظم العلاقات داخلها على أساس تعاوني. بل على العكس من ذلك، تتبنى إستراتيجية إدارة ترامب أن العلاقات الدولية تقوم على أساس تنافسي محض بين الدول بالأساس، يستهدف من كلٍ واحدة منها تحقيق الأفضلية على غيرها. الدول، إذاً، في حالة صراع دائم فيما بينها، والمنافسة على القوة "هي استمرارية أساسية في التاريخ، والفترة الزمنية الحالية ليست مختلفة". لذلك، يتشكل العالم في واقع الأمر، من متنافسين، وليس من شركاء. والدولة كي تحقق غاياتها ومصالحها، عليها أن تنخرط في منافسة غيرها، وأن تقوم بكل ما يتطلبه تحقيق التفوق في هذه المنافسة. والتعاون، إذا ما حصل، يحصل لتحقيق المنفعة الذاتية للدولة، ويجب أن ينطلق من مركز قوة في العلاقة مع المنافسين الآخرين.
من خلال هذا الفهم الواقعي للعلاقات الدولية، تنطلق إستراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب من الإيمان بالمصلحة القومية لأميركا، وترفع من أجل تحقيق ذلك شعار "أميركا أولاً". في هذا العالم الخطر والمليء بقوى منافسة تحاول بشراسة ضرب المصالح الأميركية عبر العالم، وإضعاف أميركا والحلول مكانها على الصعيد الدولي، تنادي إستراتيجية إدارة ترامب بضرورة تبني "تفكير تنافسي"، يقوم على "نحن مقابلهم"، ويتخذ من تحقيق "استمرار التفوق الأميركي" غاية عليا. ما يظهره ذلك أن هذه الإدارة تخشى تراجع مكانة ودور الولايات المتحدة في النظام الدولي حالياً، من "الدولة العظمى" في القطب الواحد، إلى وجود منافسين أقوياء يحاولون تغيير هذه المعادلة لصالحهم، ما يتوجب على هذه الإدارة القيام بردعهم، والحفاظ على النظام الدولي كما هو الآن.
من هذا المنطلق، تدعو هذه الإستراتيجية أميركا لاستعادة الزخم الذي تعتبر أنها فقدته على الصعيد الدولي خلال العقدين الماضيين، جراء السياسات التي اتبعتها الإدارات السابقة، وخصوصاً إدارة أوباما، والتي قامت على استرضاء المنافسين، ومحاولة صد طموحاتهم من خلال إشراكهم في المنظومات الدولية. ولكن هذه السياسة، وفقا للإستراتيجية الجديدة، أثبتت فشلاً ذريعاً، إذ استمرت هذه القوى المنافسة في بناء قوتها، وفي منافستها للولايات المتحدة، بل وتحديها عبر العالم. لذلك على أميركا أن تتعظ وتتخذ مساراً مغايراً لسياساتها الاسترضائية السابقة، فتقوم بالتنافس على كافة الأصعدة، وفي مختلف الأمكنة في العالم.
ينبغي على أميركا، تدعو هذه الإستراتيجية، أن تفهم العالم على حقيقته الصراعية - التنافسية، وأن تتبنى تبعاً لذلك مواقف وسياسات براغماتية وليس مثالية. عليها أن تعي أنها تواجه مخاطر حقيقية جمة من المنافسين، وأن الانتصار العالمي للقيم الليبرالية -المثالية التي تقوم عليها البلاد أمر لن يتحقق بشكل تلقائي انسيابي دون القيام بالعناء المطلوب، وأن الدور الأميركي في العالم يجب أن لا يبقى محصورا ومقيدا دائما بالقيام بما يُعتبر أنه جيّد وخيّر، وإنما بما يحقق المصلحة العليا للبلاد. وهذه المصلحة تقوم على تحقيق أربعة أهداف: حماية البلاد والمواطنين، وتحقيق الرخاء الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز النفوذ الأميركي عالميا.
تواجه أميركا، وفقا لإستراتيجية الأمن القومي الجديدة، ثلاث مجموعات رئيسية من المنافسين: القوتان التعديليتان روسيا والصين، والدولتان المارقتان إيران وكوريا الشمالية، والمنظمات التي تشكل خطرا عابرا للحدود، خصوصا الجماعات الإرهابية، وكارتيلات الجريمة المنظمة. أمام هؤلاء، على أميركا حماية نفسها أولا، وقيمها، وتحقيق رخائها الداخلي من خلال اقتصاد متين يقوم على فتح الأسواق وضمان حرية التجارة الدولية. كما وعليها المحافظة على تفوقها العسكري على منافسيها، وأن تكون دائما على استعداد للتدخل والدفاع عن مجالاتها الحيوية في مختلف أرجاء العالم. ومن أجل تحقيق ذلك تتعاون أميركا مع حلفائها وشركائها، وتقوم بما عليها لتامين حمايتهم، ولكن على أساس التبادلية، ما يعني التشارك في تحمُّل المسؤولية والأعباء والتكلفة.
ترى هذه الإستراتيجية في العلاقات الثنائية بين أميركا والبلدان الأخرى، وليس العلاقات الجماعية، الأساس الأفضل والأمتن لتحقيق الأهداف الأميركية. لذلك لا يوجد في هذه الإستراتيجية اهتمام بعقد اتفاقيات أو مواثيق جماعية تحت المظلة الدولية، مثل اتفاقيات تجارة دولية جماعية، أو بروتوكولات دولية تعتبر التغير المناخي تهديدا أمنيا للبشرية، كما ولا يوجد فيها تطلع لعالم خالي من الأسلحة النووية. كل هذه الأمور والقضايا التي تتطلب التفاعل مع الآخرين، وأخذ اهتماماتهم ومصالحهم في الاعتبار غائب في هذه الإستراتيجية. هذا لا يعني أن هذه الإدارة الأميركية ستنحو باتجاه العزلة والانطوائية، بل على العكس تماما، فهي تتبنى سياسة هجومية- استعلائية - استقوائية تقوم على توظيف القوة الاقتصادية والقدرة العسكرية لمواجهة المنافسين، كما وتطويع الحلفاء والشركاء. فما تعتبره أميركا جيدا، يجب أن يكون جيدا للجميع.
باختصار، تضع هذه الإستراتيجية مصلحة الولايات المتحدة فوق مصالح غيرها من الدول، دون اعتبار إن كانت دول منافسة أو حليفة أو شريكة. ولا تتورع من التصريح الصريح، وغير المغلف بالقيم المثالية الحميدة، بأنها ستتبع أسلوب ووسائل المنافسة الخشنة في سياستها الخارجية، غير آبهة لما يمكن أن يؤدي له ذلك من تأجيج التوتر والصراع على الصعيد الدولي.
أنها بالتأكيد إستراتيجية متنمرة تستهدف بسط الهيمنة على عالم مضطرب، ويحتاج - وفقا لها - للخلاص على يد "أكثر الدول عدالة وازدهارا في تاريخ البشرية."
***
لا يأتي ذكر منطقة الشرق الأوسط إلا شحيحا في هذه الإستراتيجية. ويأتي هذا الذكر متعلقا بمواجهة إيران والجماعات الارهابية، ومساعدة الشركاء وحمايتهم مقابل تشجيعهم على إصلاح أوضاعهم الداخلية، وزيادة مساهمتهم في التكلفة المادية للتعاون مع الولايات المتحدة الاميركية.
أما بالنسبة للقضية الفلسطينية فيوجد فقط إشارتان، واحدة أساسية والثانية عابرة. الإشارة الأساسية هي أن اسرائيل ليست السبب وراء الاضطرابات الإقليمية، بل هي إيران والجماعات الإرهابية. والدليل على ذلك أن هناك تقاربا بين العديد من دول الإقليم مع إسرائيل حاليا. أما الإشارة العابرة فهي أن الإدارة الأميركية ستبقى ملتزمة بالمساعدة وتسهيل التوصل إلى تسوية سياسية بين إسرائيل والفلسطينيين، ولكن على أساس قبول الطرفين، ما يعني أن لإسرائيل الحق النهائي في هندسة التسوية التي ترغب بها.
في مثل هذه النظرة للعالم، ولمنطقة الشرق الأوسط، يجب أن لا يُتوقع من إدارة ترامب القيام بأية بادرة معقولة تجاه القضية الفلسطينية. بل يجب الاستعداد لإمكانية قيام هذه الإدارة بمحاولة جادة لفرض رؤيتها (المنبثقة عن الرؤية الإسرائيلية) لفكفكة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي من خلال تسوية قادمة تحمل عنوان "السلام الإقليمي".