كان هذا العام الذي يلفظ غدا انفاسه الاخيرة يسمى وفق الخرافة الصينية بعام الديك، الديك الذي تضعه صحيفة النهار اعرق الصحف اللبنانية شعارا لها، وبعرفه الاحمر البارز فوق الرأس كأنما يعكس اعتداده بذاته وزهوه وربما ذكورته.
ويقال انه بنمقاره الصلب يبدي استعداده الدائم للعراك وعدم التنازل، ولكن ايضا قدرته على الحؤول او منع شر مستطير اكثر.
ولكن فرادته وشهرته بل دوره الذي لا يمكن ان ينوب عنه أي احد، انما يكمن بصياحه الشهير قبل طلوع الفجر والناس نيام، الذي يشبه الاذان وفي دقة توقيته كساعة «بيغ بن» الشهيرة، كما لو انه منتدب من الالهة او الله الى البشر ايذانا باليقظة فقد حانت ساعة الفجر والعمل، الاذان الذي يشبه الانتباهة او البشارة لفجر جديد انجلاء الظلمة والليل وبروز النور والنهار.
ولقد كان هذا هو العام الذي شهد بزوغ هذه اليقظة، يقظة العرب والمسلمين والمسيحيين والامم في الايام الاخيرة من صياح الديك المتواصل، لا حول اولوية القضية الفلسطينية وانهاء اّخر احتلال ولكن الوعي بل عودة الوعي العالمي حول مواجهة هذا الشر المستطير، الذي بدا وكأنما يحاول ان يهدد المنظومة القيمية التي اتفق عليها العالم والتي تسمى بالشرعية والقانون الدولي.
وهكذا كان هذا العام هو عام التصويت والاجماع العالمي في الامم المتحدة ضد قرار رئيس الولايات المتحدة اعتبار القدس عاصمة لاسرائيل، تحت شعار «متحدون من اجل السلام العالمي».
وتاليا عزل هذه الإدارة الاميركية في عقر ما اعتبر يوما أن الأمم المتحدة التي اسماها الرئيس روزفلت هكذا في التناص اللغوي على صورة الولايات المتحدة ملعبها الداخلي.
ولقد بدا وكأن العالم قال للولايات المتحدة في هذا العام «كش ملك».
وإذ اشتاط الملك القديم غضبا وهو لا يزال تحت تأثير هذه النوبة حتى الاّن، فانه قرر محاربة هذه المؤسسة العالمية الاولى بالمال، والبدء بقطع جزء من الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة والتهديد أو التفكير بما يعتقده قدرته على تغيير القيادة الفلسطينية.
وشهدنا على مدار العام ولا نزال ما يشبه صراع الديكة في التنافس غير المسبوق ويشمل المسرح العالمي والإقليمي ككل، بين القوى القديمة والقوى الجديدة الصاعدة، وكأن العالم دخل في هذا العام بداية حقبة جديدة من اضطرابات التوازن والذي يترافق مع مرونة أو سيولة أيضا لاسابق لها في عقد وقلب التحالفات.
في خطابه حول الاستراتيجية الاميركية الجديدة حدد دونالد ترامب أن روسيا والصين هما الأعداء، وتحدث عن السلام الذي يفرض بالقوة على غرار السلام الروماني.
لكن بنيامين نتنياهو سوف يقتدي بعد ايام من التصويت في الامم المتحدة بتلويح ترامب بمحفظة النقود، باعتبارها هي الوسيلة الناجحة لشراء موقف الدول الاعضاء.
بَيدَ أن الشراكة أو التحالف التقليدي الذي نشأ منذ الحرب العالمية الثانية بين ضفتي الأطلسي، أي بين اوروبا واميركا المكونان الرئيسيان لما يسمى بالغرب، إنما هو التحالف أو الشراكة التي تلقت في غضون هذا العام الضربة الكبرى الحاسمة.
وهكذا راينا اصطفافا جديدا في هذا الصراع او العراك، الاتحاد الاوروبي ضد ادارة ترامب، تناقض على مستوى الملفات كافة من قضية المناخ إلى الموقف من الاتفاق النووي مع ايران إلى قضية فلسطين والقدس.
أما في الإقليم فهاكم السباق المحموم بين أفطاب في الصراع على ملء أو سد الثغرات أو اختلالات التوازن والفجوات، والحديث يدور عن ثلاث قوى أو أفطاب رئيسية هي: ايران وتركيا والسعودية، وهي الأطراف التي تتزعم او تشترك في تحالفات اقليمية لم يسبق لها مثيل في العقود أو السنين الاخيرة الماضية. والذي شهدناه ان ادوارا لدول محورية اقليمية تحاول فيه هذه الدول اعادة بناء وصياغة النظام الاقليمي، على قاعدة فرادة وحق الملكية الاقليمية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالمشكلات الاقليمية، دون انتظار القوى الدولية التقليدية الخارجية او بقدر من التنسيق معها، ولكن ليس في اطار التبعية المطلقة السابقة.
وان هذا التحول الذي نشهده الآن يشبه التمرد أو العصيان سوف نجد صداه في مواقف رجب طيب اردوغان وايران والسعودية على حد سواء، ولكن ربما دلالته التاريخية أو الرمزية سوف نجد صداها الأعمق والأوضح في موقف الرئيس أبو مازن التاريخي وغير المسبوق، باعتبار اميركا لم تعد وسيطا مقبولا ورفض الاتصالات أو عقد اللقاءات مع ممثلي هذه الإدارة.
لكن سيبقى في سجل هذا العام انه هو العام الذي شهد نهاية الحرب الداخلية التي استنزفت العراق على مدى سنوات، والقرب الوشيك من نهاية هذه الحرب في سورية التي كانت تستهدف تفكيكها كما تفكيك العراق. وهذا التحول الأخير هو الذي يحمل الإشارة الثانية إلى المستقبل، إذا كان التوازن الجديد فيما يسمى بالشرق الأوسط قد يكون محكوما منذ الآن بالتحالف الروسي الايراني والتركي على الحافة الشرقية والشمالية من هذه المنطقة وبالذات من جغرافية فلسطين، فيما يبدو الاتحاد الأوروبي هو الطرف الأكثر احتمالا للعب الدور البديل من الولايات المتحدة، في التوسط لتسوية المشكلة الأم والأصلية في هذا الشرق أي القضية الفلسطينية.
وإذ حمل العام معه ما يبدو انه تمدد غير مسبوق كذلك للقوتين الإقليميتين الكبريين تركيا وايران من الشمال إلى الجنوب، ولم تستطع أو فشلت الإدارة الاميركية في إنهاء الأزمة الخليجية مربع نفوذها التقليدي والتاريخي، فان ما حمله هذا العام التاريخي أن النفط واسرائيل ربما يقترب الوقت من أن يصبحا مهددين بما يشبه كماشة « كاناي». إذا كان التمدد التركي وصولا إلى التأثير على امن البحر الأحمر، والتمدد الايراني جنوب شبه الجزيرة العربية في اليمن قد يشير إلى هذا التحول الاستراتيجي في المدى المنظور.