عزلة غير مسبوقة تعيشها الولايات المتحدة الأميركية في عهد إدارة ترامب، العالم قال لا للقرار الأميركي العدائي والمتغطرس حول مدينة القدس، كل أعضاء مجلس الأمن ما عدا أميركا رفضوا القرار، وأكثرية ساحقة - اكثر من 80% من أعضاء الجمعية العامة ما عدا 7 دول رفضوا القرار، 58 دولة إسلامية وعربية رفضت القرار، كل المؤسسات الدولية ذات الاختصاص اعتبرته منافياً للقانون ولميثاق الأمم المتحدة، الرفض ترافق مع احتجاجات ومبادرات شعبية متعاظمة تطالب بمعاقبة إدارة ترامب التي ارتكبت جريمة سياسية استفزت العالم.
مجلس الأمن الدولي يحاول إنزال ترامب عن الشجرة بعرض مشروع قرار مرن يقول ليس لقرار ترامب أي أثر قانوني ويجب سحبه، وهو لاغ وباطل. «ويطلب من الدول عدم الاعتراف بأي إجراءات أو تدابير تتعارض مع القرارات (الدولية) ذات الصلة»، وإلى الامتناع عن فتح سفارات أو بعثات ديبلوماسية في مدينة القدس وفقاً للقرار الدولي رقم 478. لكن معظم التقديرات تقول إن إدارة ترامب ستستخدم «الفيتو» حق النقض. ما يعزز هذا التقدير إمعان السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة داني دانون في سياسة التمرد على الأمم المتحدة وقراراتها حين قال: «ليس هناك أي تصويت أو نقاش يمكن أن يغيّر واقع أن القدس كانت وستظل عاصمة إسرائيل». وسنواصل الكفاح مع حلفائنا من أجل الحقيقة التاريخية»، كما أكد الرئيس ترامب تمسكه بالقرار أثناء حضوره احتفال العيد اليهودي، وتبنى الرواية التوراتية الدينية عن ظهر قلب وبحماسة منقطعة النظير.
وإذا كان الرفض العالمي والعزلة التي تتعرض لها إدارة ترامب جراء قرارها الجائر والعدمي، لن يفرض عليها التراجع، فهل ستتعايش الإدارة الأميركية مع الرفض، وتحول قرارها الى أمر واقع بالاستناد الى دوائر من الحلفاء والاتباع؟ يعيدنا ما يجري اليوم الى تجربة الهيمنة الأميركية على الأمم المتحدة، وفرض موقف الأقلية، اي ديكتاتورية الأقلية التي تتزعمها الولايات المتحدة، والتي كانت مسؤولة عن بقاء الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، وتحصيل حاصل مسؤولة عن إفشال الحل السياسي الذي يستند لقرارات الشرعية والقانون الدولي، فضلا عن مسؤوليتها عن سياسة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في إفقار الشعوب والدول.
لقد دمر ترامب الحبكة التي مكنت الاتحاد الأوروبي والمجموعات الإقليمية الأُخرى ( العربية والإسلامية وعدم الانحياز) من التعايش مع الاحتكار الأميركي ومن تحويل سياساته إلى أمر واقع. كانت الحبكة تستند الى غموض مؤسس على وعود تحتمل اكثر من تفسير، والى تعويم القضايا عبر الغوص في التفاصيل والقضايا الثانوية وعبر تفكيك المطالب وعزل عناصرها عن بعضها البعض، وفي الوقت نفسه عبر خلق الوقائع على الارض، وكل ذلك، بعيدا عن قواعد الحل السياسي المؤسس على الشرعية والقانون. نعم، أزال ترامب كل المساحيق المضللة عن السياسة الاميركية، وكشف عن وجه وحشي قبيح للهيمنة والقهر الاستعماري الجديد. وورط حلفاءه بتبني هذه السياسة او القبول الضمني بها ووضعهم في شروط شديدة السوء أصبح هؤلاء الحلفاء بلا ورقة توت بعد ان اقتلع ترامب شجرة التوت برمتها.
ان تغيير قواعد النظام الدولي المؤسسة على الهيمنة الاميركية التي انتجت الظاهرة الترامبية كونياً، تفتقد الى قوى التغيير والى حامل دولي للتغيير، لذا فإن التغيير متعذر في المدى المباشر والمتوسط، ويبقى سقف الموقف الدولي الإيجابي ينتمي الي شبه عجز في بلورة بديل او في فرض التراجع على السياسة الترامبية، وينحصر في عدم توفير الغطاء السياسي والقانوني للترامبية وإفقاد مواقفها وسياساتها لعنصر الشرعية. ويندرج الموقف العربي والإسلامي الذي عبر عنه بيان وزراء الخارجية العرب، وموقف قمة إسطنبول الإسلامية تحت سقف العجز الدولي، ومشروع قرار مجلس الأمن الدولي.
وإذا كان الموقف الدولي والإسلامي والعربي يندرج في إطار «الثابت» غير القادر على تقديم بدائل في هذه المرحلة، فإن موقف الشعوب والقوى المناهضة للحرب وللتوحش الاقتصادي والسياسي وللافقار والقهر والإذلال وللإخضاع الذي تجسده الترامبية على صعيد كوني، هو «المتغير» الذي يستطيع بناء السياسات الجديدة. المتغير الذي يمكن ان يحقق انجازات سياسية ومعنوية، ويكسب نقاطاً ويحبط أو يربك سياسات، ويفرض مواقف، ويخترق الحلقات الضعيفة في الترامبية بالإفادة من إفلاسها السياسي والأخلاقي.
ثمة مصلحة مشتركة لمقاومة الترامبية على صعيد كوني، وقد قدم قرار ترامب حافزا لتنظيم الجبهة المناهضة للترامبية وبهذا المعنى فإن الشعب الفلسطيني ليس وحيدا في المعركة السياسة ضد الترامبية وضد الاستعمار الإسرائيلي الذي يشكل أهم حليف وداعم للترامبية وسياساتها في الإقليم والعالم. وهذا يحيلنا الى أهمية الموقف والدور الفلسطيني الذي يستطيع إحداث فرق في الاستقطاب الإقليمي والعالمي ضد الترامبية. وكي يتمكن من لعب دور مؤثر ومهم ومساعد في تغيير المواقف العربية والدولية الشعبية والرسمية، فإن ذلك يستدعي إحداث تغيير فلسطيني جدي وحقيقي في السياسات وفي البنية وفي أشكال النضال والتعبئة وفي الخطاب السياسي والثقافي والإعلامي وفي التحالفات وفي السلك الدبلوماسي. وبالقدر الذي يحدث فيه التغير الفلسطيني بالقدر الذي سينشأ الاستقطاب والعمل في الحلقات الأخرى. وإذا اردنا تحديد الأولويات والمهمات العاجلة يمكن القول.
• لقد تجاوزت دولة الاحتلال اتفاق اوسلو وأبقت على البنود التي تكرس السيطرة والإخضاع والتبعية والإذلال، وكان اعتراف 137 دولة بفلسطين عضوا مراقبا في الأمم المتحدة، يشكل قاعدة للخلاص من قيود أوسلو وآثاره الكارثية، ويستدعي قرار ترامب حول القدس وصفقته الموعودة العمل على اعتراف الجمعية العامة بفلسطين عضوا كامل العضوية.
• البنية الملازمة لاتفاق اوسلو لا تستطيع خوض معارك سياسية كبيرة ولا الصمود طويلا أمام الضغوط المتزايدة، ولا مناص من البدء في تغيير وتطوير البنية ورأب الصدع في العلاقة مع القطاعات الشعبية العريضة التي تشكل الضمانة الأكيدة للصمود.
• لم تعد مبررات صيغة الحكومة والهيئات التابعة لها مقنعة، فثمة حاجة لمجلس تعليم مهني متنور بدلا من وزارة التربية والتعليم، وثمة حاجة لمجلس صحي مهني بمستوى حاجة الشعب، ومجلس عمل وعمال شديد الحساسية لحاجة العمال، الشيء نفسه ينطبق على الاقتصاد والزراعة والثقافة والأمن والخارجية وسلكها الدبلوماسي، ولا حاجة لوزارات وأجهزة شكلية وأطقم بيروقراطية وجيش من العاطلين عن العمل.
• التغيير في أشكال النضال، وعدم تكرار أساليب فاشلة، فالمواجهة التي تقتصر على مجموعات شبابية صغيرة بدون أهداف أصبحت غير مقنعة حتى للشباب. عندما تقول فلسطين كلها لا لزيارة بينس ولو لمدة 5 دقائق سيكون المردود السياسي افضل نوعيا من مواجهة عشرات الشبان لجنود مدججين بالسلاح، عندما تزحف مسيرات الآلاف الى الحواجز العسكرية وتقول لا للاحتلال سيكون لها جدوى اكثر، وعندما تستعيد التنظيمات جماهيرها وتشركهم في النضال افضل من نشر الإعلام الفئوية على كل الأعمدة. وعندما يخرج المحامون والأطباء والطالبات والمعلمون والمعلمات ... الخ فإن ذلك افضل من خروج الملثمين وتهديداتهم المكرورة غير المفيدة، والعبرة في السنة الأولى للانتفاضة الأولى.
Mohanned_t@yahoo.com