كتب إيشان ثارور في صحيفة واشنطن بوست الاميريكية :
كان من المتوقع أن يثير خطاب الرئيس ترامب بشأن القدس ضجة كبيرة. ومن خلال خطاب قصير ألقاه في البيت الأبيض، في حين كان نائبه بنس يقف وراءه، اعترف ترامب رسميا بمدينة القدس عاصمة لإسرائيل، فضلا عن خططه لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب. وقد اتخذ ترامب هذا القرار على الرغم من المعارضة شبه الجماعية من قبل المجتمع الدولي. وللمرة الثانية خلال أسبوعين، واجه ترامب موجة من الانتقادات اللاذعة من قبل رئيسة الوزراء البريطانية.
على خلفية هذا القرار، أعرب البابا فرنسيس عن "قلقه العميق" إزاء أي تحرك من شأنه أن يُخل "بالوضع القائم" للمدينة القديمة، في حين شدد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على أن هذه المسألة تعتبر "خطا أحمر" بالنسبة للمسلمين، مهددا بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، وجه الرئيس الفرنسي والملك السعودي والمرشد الأعلى الإيراني انتقادات لاذعة لترامب نتيجة اتخاذه لقرار، يعتقدون جميعا أن من شأنه أن يعرقل خيار حل الدولتين.
من جانب آخر، أكد الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الذي ارتكزت مسيرته السياسية على دوره على اعتباره محاورا عربيا رئيسيا في عملية السلام التي تدعمها الولايات المتحدة، أن خطاب ترامب يعد بمثابة "إعلان انسحاب" من قبل الولايات المتحدة من مهمتها على اعتبارها وسيطا بين الإسرائيليين والفلسطينيين. في المقابل، نال هذا القرار إعجاب شخص واحد في الشرق الأوسط، ألا وهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي صرح أن "اليوم يعد يوما تاريخيا ... فقد كانت القدس محور آمالنا وأحلامنا وصلواتنا منذ ثلاثة آلاف سنة، فضلا عن أنها كانت عاصمة الشعب اليهودي منذ ثلاثة آلاف سنة". وعقب قرار ترامب، نقلت سلطات المدينة صورة للأعلام الإسرائيلية والأميركية وهي ترفرف فوق أسوار المدينة القديمة.
خلال البيان الذي ألقاه، أشاد الرئيس الأميركي بالقدس على اعتبارها عاصمة الشعب اليهودي منذ العصور القديمة. وأضاف ترامب أنه "قد حان الوقت لتبني (مقاربة جديدة) للصراع الذي لا يوجد له حل في الأفق". من المثير للسخرية أنه، وبغض النظر عن ادعاءات الأحقية التاريخية التي صاحبت النقاش حول القدس، يعد النزاع الحالي حولها حديث العهد. فقد كان الجيل السابق من الصهاينة العلمانيين غير مهتمين بالمدينة المقدسة، نظرا لأنها كانت مسكنا لعدد لا يحصى من الطوائف، في حين كانوا يركزون كل اهتمامهم على بناء تل أبيب وغيرها من الرؤى الحديثة للدولة الإسرائيلية الجديدة. ولكن هذا الموقف تغير على مدى عقود من الحرب.
في هذا الإطار، أفاد الخبير الجغرافي، يهوشوا بن أرياه، من الجامعة العبرية، في حوار أجراه مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، أن "الصراع العربي - اليهودي تطور إلى صراع وطني حول القدس". وأضاف المصدر ذاته أن "القدس كانت مدينة مقدسة بالنسبة لثلاث ديانات، ولكن إبان تزايد عدد سكان الشعب اليهودي والشعب العربي (على أرض إسرائيل) حاول كلا الشعبين الحصول على القدس. وفي الحقيقة، كان الفلسطينيون واليهود في حاجة إلى القدس أكثر من حاجة القدس إليهم".
بغض النظر عن تاريخ تلك الادعاءات، يبدو أن ترامب لن يسمح إلا لإسرائيل بالحصول على القدس نظرا لأنه لم يعترف في أي من خطاباته السابقة بالأغلبية العربية في القدس الشرقية، التي احتلتها القوات الإسرائيلية في سنة 1967، علما أن الفلسطينيين يعتبرونها مركزا لدولتهم في المستقبل. وعلى الرغم من أن ترامب لم يتنصل من الدعم الأميركي لحل الدولتين، إلا أنه لم يقدم أي مؤشر الى دعمه الكامل لهذا الأمر، قائلا إنه سيدعم أي حل "في حال وافق عليه الجانبان". من هذا المنطلق، استنتج العديد من الخبراء أن خطابات ترامب قدمت للحكومة الإسرائيلية اليمينية ما سعت إليه منذ فترة طويلة، في حين أنها لم تقدم للفلسطينيين شيئا.
بعيدا عن العديد من المخاوف التي تحوم حول التغيير المفاجئ في السياسة الأميركية العريقة، على غرار احتمال اندلاع موجة من العنف، هناك سؤال جوهري: لماذا يحدث هذا الآن؟ يرى ترامب، الذي كان حريصا على أن يكون مصدرا للإزعاج، أنه من الضروري التخلي عن أساليب الماضي لتحقيق اتفاق سلام دائم، على الرغم من أنه من الصعب أن نرى كيف يمكن للقرار التخريبي الذي اتخذه أن يساعد في ذلك. وفي هذا الإطار، أشار بعض المراقبين إلى أن ترامب قد تسبب في خلق الكثير من الاضطرابات نتيجة لخطاباته العدائية المثيرة للجدل.
ربما يكون أبسط تفسير للخطوة التي اتخذها ترامب أيديولوجيا بحتا، حيث لقي وفاؤه بالوعود التي قطعها خلال حملته الانتخابية ترحيبا كبيرا من قبل جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل في واشنطن، فضلا عن المسيحيين الأميركيين المناصرين لدولة إسرائيل، الذين يرون حصولها على المدينة المقدسة تحقيقا لنبوءة جاءت في الكتاب المقدس. وحيال هذا الشأن، أوضح نتنياهو خلال خطاب ألقاه أمام جمهور في واشنطن، قائلا: "ليس لدينا أصدقاء أفضل من المؤيدين المسيحيين لإسرائيل". ويعتبر ذلك اعترافا ضمنيا بتراجع الدعم المقدم من اليهود الأميركيين لسياسات حكومته.
في حين أنه من السهل أن نشكك في تديّن ترامب، لا يمكن أن نقول الشيء ذاته عن مايك بنس، المحبوب من الحركة الإنجيلية. وفي هذا الإطار، كتبت الناشطة الإنجيلية الأميركية، لوري كاردوزا مور، في مقال نشرته في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أنه "على غرار اليهوديين، يعتقد المسيحيون أن المسيح سوف يجلس يوما ما على عرش داود في القدس". وأضافت كاردوزا مور أن "ذلك يعد خطوة أخرى من قبل ترامب مخالفة لسياسات الإدارات الأربع السابقة. وبالتالي، يحق لليهوديين والمسيحيين الذين يوجدون في الولايات المتحدة أن يعربوا عن مساندتهم لإسرائيل".
في الأثناء، يبدو أن التذرع "بالتراث اليهودي - المسيحي" سيكون مبررا متسقا مع مساعي ترامب. وفي سياق متصل، أفاد ترامب خلال خطاب ألقاه، في تشرين الأول الماضي: "نحن لا نعبد الحكومة، بل نعبد الله". وأردف ترامب في وقت لاحق: "سنوقف كل هجماتنا على القيم اليهودية - المسيحية".
تعتبر القيم اليهودية المسيحية ذات أهمية كبرى بالنسبة لترامب. فقد بنى الرئيس أسس سياسته المتبعة انطلاقا من "النزعة القبلية" التي يتبناها والتي ترفض بشكل واضح أي اعتقاد فيما يعرف "بالقيم العالمية". ويتجلى ذلك في دفاع الرئيس الأميركي المتزايد عن قومية الدم والأرض والهوية الغربية. في الحقيقة، لا يعزى هوس ترامب بالقيم "اليهودية - المسيحية" إلى معتقداته الدينية الفعلية بل بسبب سياساته المستحدثة القائمة على مبدأ الانقسام، علما أنه من المؤكد أن ترامب يدرك مدى حساسية قضية القدس. بناء على ذلك، يحيل قراره بالمضي قدما في الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إلى هناك إلى أنه يريد إثارة المزيد من الفوضى في المنطقة.
حيال هذا الشأن أورد المحلل السياسي، بيتر بينارت، في مقال نشره في مجلة الأتلانتيك الأميركية أنه "بالنسبة لترامب تعد النزاعات الدينية العرقية قضايا حاسمة لإضفاء الشرعية على خطاباته. ففي الواقع، يحتاج ترامب في معظم الوقت إلى التطرق إلى المكسيكيين الأميركيين الذين يغتصبون ويقتلون الفتيات البيض، والرياضيين من أصل أفريقي للحديث عن عدم احترام العلم، والمسلمين الذين يفجرون القنابل ويحرقون الأعلام الأميركية. وكلما ارتفعت وتيرة التهديد من غير البيض وغير المسيحيين، سواء في الداخل أو الخارج، اعتمد المزيد من مؤيديه عليه للتقليل من شأن "البرابرة" وسلبهم المزيد من حقوقهم، حتى لو تطلب الأمر قيام ترامب باختلاق ذلك التهديد بنفسه. أما فيما يتعلق بالقدس، فيمكن لترامب أن يذهب إلى أبعد من ذلك ويساعد على اختلاق مثل تلك التهديدات".
عن "واشنطن بوست"