استمعنا في غضون الأيام الماضية الى ما يشبه سيلاً من التصريحات او الأقوال والتقارير والتعليقات حول المفاوضات أو الإجراءات الجارية بشأن المصالحة، وإذ تعكس هذه المتابعة الإعلامية الكثيفة وكذا النقاش الفلسطيني الإجمالي حولها حيوية الشعب الفلسطيني، وممارسة الرأي العام لدوره وحقه في مراقبة هذه العملية الهامة في تقرير مصيره ومستقبله. إلا أن ما يُؤسَف له ويجب التنويه إليه هو اكتشاف او اتضاح حقيقة ان بعض هذه الأقوال او التصريحات التي تنسب من هنا او هناك لشخصيات فاعلة في هذه العملية، كانت غير صحيحة وكاذبة او مجرد تلفيقات، ولا سيما من هذه الأقوال التي اتفق على وصفها بالتوتيرية.
وحسناً على سبيل المثال أن أشار الأخ عزام الأحمد الذي كان له النصيب الأكبر من تلفيق هذه الأقوال المزورة نسبة اليه، تسمية هذه المواقع او الوكالات الإعلامية باسمها. وأعتقد ان هذا ما يجب فعله إزاء هذا الاستهتار او انعدام المهنية والموضوعية ومحاولة إشاعة أجواء مشوشة من البلبلة، والتي تعطي الانطباع كما لو ان ما يحدث هو شيء فاشل او مستحيل وغير ممكن، قبل أن تبلغ هذه العملية مداها الأخير لكي نتيقن من بروز الخيط الأبيض عن الأسود.
والواقع ان هناك مشكلات حقيقية وربما صعبة في طريق المصالحة او الوحدة، وان هذه المشكلات او العوائق والثغرات قد تفوق صراعنا في وقت سابق مع التحديات او المشكلات التي كان يطرحها الانقسام نفسه، ذلك ان إحداث او إعادة إنشاء وبناء وتأسيس نظام جديد للأمور وربما لا سابق له في نموذجه او هيكلته، فان هذه هي المهمة الأصعب او الشاقة، ولكن هي المهمة التاريخية التي يحظر علينا الغفو او السهو عنها. ولقد أعجبني في هذا الوضع قول الاخ عزام الأحمد «انه لا ينام».
وقد يمكن اختصار ربما هذه المعضلة أو الإشكالية التي تصطدم بها هذه المهمة بسؤال ذي طبيعة نظرية او فلسفية، وهذا السؤال كيف يمكن للسلطة او النظام الجديد ان يحكم في واحدة من اشد اللحظات حرجاً في المسيرة الفلسطينية، لأول قطعة شبه محررة من أرض الدولة الفلسطينية العتيدة، دون ان تخرج قوى المقاومة الممثلة بـ «حماس» في هذا الواقع من معادلة الحكم؟ او بتعبير آخر كيف يمكن الحكم على هذه الارض بروح الشراكة؟.
وللجواب على هذا السؤال استدعاء سؤال آخر، هل يمكن مقاربة مفهوم الحكم او النظام في غزة كما هو الحال في رام الله او ما يسمى بالمناطق «أ» في الضفة؟ واذا كان الجواب هو «كلا» بحكم خصوصية غزة التي تم طرد الاحتلال المباشر منها بقوة السلاح، فأي مقاربة اذن يمكن التوصل اليها لمفهوم يؤطر الشراكة او معادلة الحكم هنا ازاء غزة؟ وحيث لا يبدو خافياً او مستتراً ان كل ما يتعلق بهذه المصالحة انما يتمحور حول مصير غزة، فالانقسام كان واقعاً هنا وإعادة المصالحة يتحقق من هنا.
ولم نبلغ بعد إقامة الدولة الواقعية او المادية على الارض، لكننا نستطيع الادعاء باننا ربما حركة التحرر الوطنية الوحيدة او الاستثناء في التاريخ التي امتلكت خبرة ومراس الحكم او نظام الدولة السياسية، قبل تحقيق هدفها الرئيسي والمنجز في التحرر والاستقلال. ولو أردنا اختصار هذه الخبرة فقد يمكن الإشارة الى ثلاث تجارب او مراحل تاريخية من ممارسة هذا النوع من إقامة هذه السلطات او مجازاً الجمهوريات الفلسطينية، التي كانت تظهر في كل مرة قدرتنا على صياغة او تقديم الجواب، وشكلت بالأخير مجموع هذه التجارب قوة مراسنا وجاهزيتنا للاستقلال وإقامة الدولة المادية العتيدة.
وكانت التجربة الأولى هي التي حدثت في المنفى في اطار ما سمي خلال الحقبة اللبنانية بجمهورية الفاكهاني، وهي الجمهورية الخالصة المكونة من فصائل المقاومة الفلسطينية زمن الكفاح المسلح والفدائيين، والتي كانت تقودها حركة فتح التي تمثل الأخ الأكبر للفصائل الأُخرى، وكانت فتح تقوم بضبط الأداء ولكن في ظل استقلالية كاملة تقريبا للفصائل، كل فصيل على حدة إعلامياً وأمنياً وقوات مسلحة. وهي الجمهورية او التجربة التي طالما فاخر بها عرفات الذي أسماها «ديمقراطية غابة البنادق».
اما الجمهورية الثانية فهي السلطة الفلسطينية الأولى زمن عرفات التي أُنشئت وفق اتفاقية اوسلو، وهي السلطة التي كانت تزاوج بين المفاوضات والشرعية الدولية وبين المقاومة المسلحة او الفصائلية من طرف خفي وغير معلن. وكانت هذه المزاوجة امتدادا في التاريخ النضالي الفلسطيني لما قام به الحاج امين الحسيني، خلال ثورة الثلاثينات ضد الاحتلال البريطاني في تشكيل جيش الجهاد المقدس من تحت عباءة المجلس الإسلامي الأعلى الذي كان يرأسه.
ان الجمهورية الثالثة هي نموذج السلطة الراهنة في الضفة في ظل رئاسة الرئيس ابو مازن، وهي سلطة تزاوج أيضا بين مشروعية النظام السياسي والمقاومة، ولكن مع تأكيد واضح وصريح على تعريف او تحديد هذه المقاومة باعتبارها شعبية وسلمية تنسجم مع القانون الدولي. وعلى النقيض من هذا النموذج وبصورة موازية في ظل الانقسام فقد قامت جمهورية «حماس» في غزة خلال السنوات العشر الماضية من الانقسام بالتعريف الصريح لدور الحكومة الذي يقوم على حماية المقاومة، والتأكيد الصريح على ان هذه المقاومة مسلحة بالأساس.
ما هو اذَن الشكل الجديد للنظام الجديد للأمور الذي يتوقع ان تنتهي اليه المصالحة؟ والجواب قد يعتمد أيضا على سؤال آخر: هل استعادة غزة الى حضن السلطة او إعادة دمج «حماس» في النظام السياسي الفلسطيني وهي العملية التي فشلت او تم بترها العام 2006 سوف تحمل معها تغييرا او تعديلا في نموذج النظام الحالي؟ والجواب هو نعم. وان ما هو محتمل هو المزاوجة بين النموذجين الاستثنائيين السلطة الشرعية والمقاومة غير الخفية ولكن الراقدة او الكامنة وقد نقول التي يجري تدجينها او ترويضها. وفي النموذج اللبناني الشبيه توصلوا الى الاتفاق على ما يسمى «السياسة الدفاعية» لدمج حزب الله في النظام. وفي الحالة الفلسطينية هناك التفاهم على أن قرار الحرب والسلام جماعي وليس فردياً، وتعريف العقيدة الأمنية والفارق بين السلطة والفصائلية.