قبل عدة أيام، اتصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنظيره التركي رجب طيب أردوغان حتى يخبره أنه بصدد وقف تقديم السلاح إلى قوات سورية الديمقراطية التي تدعمها واشنطن والتي وصل حجم سيطرتها على مناطق في شمال سورية تقدر بحوالي 25% من كل الأراضي السورية.
ثمة أسباب دفعت ترامب للاتصال الهاتفي بأردوغان، خصوصاً وأن العلاقات بين البلدين وصلت إلى مستويات صعبة، على خلفية الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة الأميركية إلى الأكراد في سورية والذي ترى فيه أنقرة تهديد صريح لأمنها ومصالحها في المنطقة.
النغمة الأميركية تغيرت ربما لأن الرئيس ترامب لا يريد أن يخسر نظيره التركي، ذلك أن السياسة التركية تحولت في الفترة الأخيرة نحو روسيا، على الرغم أنه لا توجد علاقة استراتيجية بين البلدين، بعكس العلاقات القوية والمتينة التي تربط الولايات المتحدة بتركيا.
لقد سعى أردوغان كل الوقت إلى تحسين علاقته بواشنطن، لكن الملف الشائك المتعلق بالداعية فتح الله غولن عكّر صفو هذه العلاقة، حيث تتهم تركيا واشنطن بأن لها علاقة بالانقلاب الذي وقع منتصف العام الماضي وأنها تأوي غولن الذي تنظر له أنقرة على أنه العقل المدبر للانقلاب، وهذا يعتبر واحداً من الأسباب المهمة التي زادت من عمق توتر العلاقات بين البلدين.
أما لماذا اتصل ترامب بأردوغان فله علاقة برغبة أميركية في كسب تركيا وسحب قدمها من البساط الروسي، وكان ملاحظاً بطبيعة الحال الحلف الذي سعت موسكو لإقامته مع كل من طهران وأنقرة، بهدف وضع حد للأزمة السورية بناء على مصالح هذا الثلاثي.
الذي فعله الرئيس الأميركي في السابق، أن استعدى تركيا بملفي غولن والأكراد، لكن لم يدرك ترامب أنه من الصعب لي ذراع نظيره أردوغان، إذ تعتبر تركيا من الدول الصاعدة في المنطقة، وشخص مثل الرئيس التركي يُقيّم حساباته ومصالحه بالمسطرة وبأدنى خسارة ممكنة.
من ذلك مثلاً أنه حين زاد توتر العلاقات بين البلدين، أعلنت واشنطن عن وقف منح التأشيرات للأتراك، وفي المقابل أقدم أردوغان على هذه المعاملة بالمثل، وأوقف منح التأشيرات للأميركيين. لكنه أيضاً، أي أردوغان، اعتذر للروس على استهداف بلاده طائرة حربية روسية كانت تحوم فوق الأجواء السورية قبل أكثر من عام، وهذا الاعتذار لم يكن ليقدمه الرئيس التركي لولا أن مصالحه تضررت بفعل سوء العلاقة مع كل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية.
نعم هو وجد مصلحته عند الدب الروسي، وحصل أن عادت العلاقات تدريجياً إلى المستوى الذي كانت عليه قبل قصف الطائرة الروسية، وذهب إلى أبعد من ذلك حين تمت صفقة مع موسكو تستهدف شراء صواريخ اس 400 الروسية.
هكذا فعل أردوغان، أن أدار ظهره لواشنطن والاتحاد الأوروبي، بعد أن أداروا ظهرهم له، لكنه مع ذلك لا يتطلع أبداً إلى قطع حبل العلاقة والمودة معهم، إذ يرى أن تحقيق مصالحه المرجوة يترجم في انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي، مع وجود غطاء أميركي يحميه ويقدم له كل أنواع الدعم والإسناد.
إذاً اتصال الرئيس الأميركي بعد فترة طويلة من القطيعة يهدف إلى ترطيب الأجواء مع تركيا، مع العلم حين يتحدث ترامب مع أرودغان عن الملف الكردي فإن ذلك يشكل استجابة قوية من قبل الرئيس التركي الذي يهمه كثيراً هذا الملف.
من نتائج هذا الاتصال، أن صدرت تصريحات عن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم يقول فيها إنه لا يمكن تصور حل الأزمة السورية مع بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة، ومثل هذا التصريح لم يصدر عن القيادة التركية منذ أشهر، وتحديداً بعد أن تحسنت علاقتها بروسيا.
أيضاً صدر عن مجلس الأمن القومي التركي بيان يعكس رغبة تركية بتوسيع نطاق عملياتها في شمال سورية إلى كل من عفرين وغرب حلب، ومثل هذا البيان يثير مخاوف الأكراد والنظام السوري الذي يرى في التدخل العسكري التركي انتهاك صريح لأمنه وسيادته الوطنية.
أردوغان نفسه علّق على اتصال ترامب به، بالقول إنها محادثات جرت لأول مرة منذ فترة طويلة، وأنه يعتقد أن البلدين على نفس الموجة، مشيراً إلى أن الرئيس الأميركي سيعاود الاتصال به مرةً أخرى ربما في بحر الأسبوع المقبل.
لكن ينبغي الإشارة هنا إلى أن وزارة الدفاع الأميركية قالت إنه يجري مراجعة تعديلات على الدعم العسكري والسلاح الذي تقدمه إلى قوات سورية الديمقراطية، وفي ذات الوقت طمأنت الأخيرة بأن الموضوع يتعلق فقط بتخفيف الدعم العسكري وليس السياسي.
الأمر أشبه بمناورة سياسية تجريها واشنطن مع تركيا، فقد رمى ترامب طعمه إلى الرئيس التركي، وهو يلعب بالورقة الكردية من أجل وضع أنقرة على الأقل في منتصف الطريق، ليست كلها مع موسكو وإذا أرادت أن تحسب على واشنطن فإن على الأخيرة أن تقدم طعماً جيداً يتصل بتقديم تنازلات في موضوع غولن وفي الملف الكردي.
وكما تناور الولايات المتحدة لإبقاء تركيا بعيدة عن الحضن الروسي، فإن أردوغان يدرك ما الذي تريده منه واشنطن، ولذلك يرى أنه لاعب جيد وأن ذهابه إلى موسكو قد يؤذي واشنطن ويدفعها للتنازل ببعض الأوراق التي في حوزتها.
أيضاً يعلم شخص مثل الرئيس بوتين أن تركيا لا تصلح أن تكون دولة شريكة بالمعنى الاستراتيجي لروسيا، خصوصاً وأن الأولى عضو في حلف الناتو، هذا الذي يسعى للاقتراب إلى كل الحدائق الخلفية لموسكو، وفي سياسة المصالح تنظر أنقرة إلى اهتمام كبير بأوروبا وأولوية الانضمام إلى اتحادها وتحسين علاقتها بواشنطن، أكثر من الارتماء في الحضن الروسي بتذكرة ذهاب بلا عودة.
على أن روسيا لم تلعب بعد بالكرت الكردي، فهي أيضاً تمتلك أوراقاً يمكنها أن تجلب بها تركيا، وكما يهم موسكو أن تقلل أعدائها في الساحة السورية، أيضاً يهم الولايات المتحدة أن تقلل أعداءها لتجريد روسيا من عناصر قوتها.
لكل ذلك اتصل ترامب بأردوغان، حتى يشعره أن واشنطن معنية بتركيا ولا تريد أن تخسرها، لكن لن يفوز الرئيس الأميركي بقلب نظيره التركي إلا إذا أعلن صراحةً عن وقف دعمه الكامل للأكراد، ووافق السياسة التركية على حرية التصرف في التعامل مع الملف الكردي، إن داخل أراضيها وعلى الحدود التركية- السورية، أو داخل أراضي الأخيرة.
Hokal79@hotmail.com