لم تكن العلاقات السعودية ـ الإيرانية دائما متوترة كما هي اليوم. البلدان تعاونا معاً مباشرة ومن خلال الولايات المتحدة لمواجهة ما كان يعرف بالخطر الشيوعي سابقاً رغم اعتراض العربية السعودية ومعها دول الخليج العربي على الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث.
نجاح الثورة الإسلامية في إيران العام ١٩٧٩ لم يكن فقط إعلانا لنهاية التحالف بين البلدين، ولكن شكل للعربية السعودية أيضاً ما يمكن أن نسمية أزمة هوية.
السعودية لم تكن تقدم نفسها للعالم ولشعبها على أنها دولة إسلامية فقط، ولكن على أنها الدولة الإسلامية التي تحكم وفقاً للشريعة الإسلامية والتي تقود العالم الإسلامي أيضاً.
هذا المكون الأساس لهويتها كان له دلالتان عملت العربية السعودية على تأكيدهما دائماً.
الأول هو أن الإسلام يدعو إلى طاعة ولي الأمر وأن "الفتنة"، الخروج عن هذه الطاعة، "أشد من القتل". والثانية لها علاقة بسياستها الخارجية التي بررت من خلالها التحالف مع الولايات المتحدة على قاعدة أن الصراع في العالم هو بين "المؤمنين والكفار"، وبالتالي كان التحالف مع الولايات المتحدة له مبرر "شرعي" باعتبار الأخيرة دولة مسيحية "مُؤمِنة" تواجه معسكراً "كافراً" يقوده الاتحاد السوفييتي.
كل الجماعات الإسلامية التي كانت تدور في فلك العربية السعودية في ذلك الوقت بما فيهم الإخوان المسلمين كانوا يمارسون سياسات تعمل على تأكيد هذه الهوية: الابتعاد عن الدعوة للثورة، التحالف مع الحكام العرب، والتركيز على خطر "الشيوعية" على الإسلام والمسلمين.
العربية السعودية رأت في نجاح الثورة الإسلامية في إيران تهديداً لمباشراً لهويتها. أولاً، لأن إيران لم ترفض فقط زعامة العربية السعودية للعالم الإسلامي، ولكن اعتبرت نفسها أيضاً متحدثاً ومدافعاً عن هذا العالم، بمعنى أن زعامة العربية السعودية لهذا العالم أصبحت موضع شك.
ثانياً، لأن الثورة الإسلامية في إيران كانت بمثابة تحدٍ لفكرة "عدم الخروج على ولي الأمر" وهذه الثورة بالتالي قد تشجع ثورات في دول عربية وإسلامية أخرى خصوصاً وأن إيران لم تخف سعيها لتصدير ثورتها إلى خارج حدودها، وأيضاً لأن جزءا من جماعات الإسلام السياسي أصبح يرى في إيران نموذجاً يمكن الاحتذاء به.
وثالثاً، لأن إيران طرحت مفهوما آخر للصراع في العالم مغايرا ومناقضا لما كانت تطرحه العربية السعودية. إيران الجديدة رأت أن الصراع هو بين قوى "الاستكبار" في العالم و"المستَضعَفين" في الأرض.
على رأس "قوى الاستكبار" في العالم كانت الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن هنا كان الهتاف الإيراني الشهير الذي يتردد في كل منطقه لإيران حضور فيها: الموت لأميركا، الموت لإسرائيل.
هوية العربية السعودية الإسلامية التي كانت تعطيها قدراً عالياً من الشعور بالاستقرار والثقة بالنفس أصبحت بالتالي مهددة لأن هنالك الآن دولة تطرح "فهماً" للإسلام لا يناقض فقط "فهمها" نظرياً ولكن لها القدرة والإمكانيات العملية على الدفع به إلى خارج حدودها.
لأن قوى الإسلام السياسي الأكثر احتمالاً لتبني أفكار إيران الجديدة قد تكون من المُكون الشيعي العربي الموجود في العديد من دول العالم العربي، بما فيه السعودية نفسها، كان خط السعودية الأول للدفاع هو في تقزيم تمثيلها للعالم الإسلامي، واعتبار نفسها مدافعاً وممثلاً للإسلام "السني".
تلقائياً، هذا كان يعني رؤية "الشيعة" العرب بأعين من الشك وعدم الثقة، وهذا بدوره جعل المكون الشيعي في العالم العربي أقرب إلى إيران، وبالتالي سهل عليها مهمتها في بناء علاقات قوية مع حركات الإسلام السياسي الممثلة لهذا المكون مثل حزب الله في لبنان، وحزب الدعوة في العراق.
على كل حال، لم يكن ذلك كافياً لأن تتحول إشكالية "الهوية" للعربية السعودية إلى معضله أمنية لها لولا الاحتلال الأميركي للعراق العام ٢٠٠٣.
هذا الاحتلال والذي نتج عنه إنهاء حكم نظام صدام حسين المعادي لإيران وحل الجيش العراقي، انتهى بسيطرة الأحزاب السياسية الموالية لإيران على الحكم في العراق.
ولأن إيران ونظام بشار الأسد في سورية نسقا عن قرب لتحويل "العراق" إلى مستنقع للأميركيين يصعب عليها الخروج منه لتهديد كلا البلدين، توطدت أيضاً العلاقات الإيرانية السورية.
صمود حزب الله أمام آلة الموت الإسرائيلية في حرب العام ٢٠٠٦ على لبنان ومنعه إسرائيل من تحقيق أهدافها، ساهم أيضاً في توطيد علاقات إيران مع محورها الذي أصبح يمتد جغرافياً عبر ثلاث دول متلاصقة: العراق، سورية، ولبنان، وأعطاها أيضاً الثقة بالقدرة على التأثير في مجريات الأحداث في العالم العربي.
ما بدأ كمشكلة "هوية" للعربية السعودية، تحول بالتالي مع الاحتلال الأميركي للعراق إلى مشكلة أو معضلة أمنية لها لأن إيران ومن خلال نفوذها في عدد من الدول العربية أصبحت قادرة على تهديد الأمن السعودي بشكل فعلي.
من هنا كان القرار الإستراتيجي السعودي بدعم "الثورة" السورية: محاولة منها لإنهاء التحالف السوري الإيراني بالقوة وإضعاف حزب الله كنتيجة لذلك. ومن هنا أيضاً كان القرار الإستراتيجي الإيراني بمنع نظام بشار الأسد من السقوط أياً كانت التكاليف.
التدخل من كلا البلدين في سورية حول "الثورة" إلى حرب أهلية "طائفية". أكثر من ذلك، هذا التدخل عزز من قوة التيار الإسلامي "الجهادي" في سورية الذي رأت فيه السعودية أنه التيار القادر على هزيمة نظام بشار وحلفائه.
المشكلة أن هذا التدخل كان له تأثير جانبي خطر على العربية السعودية نفسها:
الأول: أن قسما مهما من حركات الإسلام السياسي المتطرفة معادية للعربية السعودية. بمعنى إسقاط نظام بشار وتسليمه للمتطرفين كان أيضاً سيشكل خطرا أمنيا على السعودية وعلى حلفائها في الإقليم.
الثاني وهو الأهم في تقديري، أن التحالف الإيراني السوري أصبح أقوى بكثير من السابق. فيما مضى كان الاختراق الإيراني لسورية متمثلاً بالعلاقات القوية التي تجمع قادة البلدين ببعضهما.
اليوم إيران لها علاقات مباشرة مع الجيش السوري، مع قوى اجتماعية داعمة للنظام السوري، ولها فوق ذلك وجود مباشر على الأرض من خلال جيش القدس الإيراني وعدد من الجماعات التي دربتها وأحضرتها من العراق وأفغانستان وأذربيجان للقتال إلى جانب القوات السورية.
انتصار النظام السوري في حربه على معارضيه، كما هي الحال الآن، يعني تعزيز النفوذ الإيراني في سورية.
من هنا كان التغير في الموقف السعودي أخيراً: دعوا الأسد يبقى لكن أَخرجوا إيران من سورية. بالطبع لن تكون هذه المسألة سهلة وقد لا تكون ممكنه أيضاً في أي وقت قريب لأن إيران أصبحت لاعبا أساسيا في تشكيل مستقبل سورية بعد سبعة أعوام من الصراع فيها.
الحال مشابهة في اليمن لأن التدخل العسكري فيه دفع "الحوثيين" للتحالف علانية مع إيران ومع محورها لأنهم الوحيدون الذين يقفون معهم.
لا أرغب هنا ببيان أن سياسات أخرى مثل الحوار مع إيران والتعامل مع المكون الشيعي على أنه عربي أولاً، كان يمكنها أن تكون أقل كلفه وأكثر فاعليه للتصدي للنفوذ الإيراني، ولكني أردت القول إن مشكله العربية السعودية كانت أساساً متعلقة بهويتها، وتحولت بفعل سياسات لم تكن فاعله إلى معضلة أمنية عليها أن تتعامل معها.
يقيناً، أن حل هذه المعضلة يكمن أولاً بالاعتراف بأن السياسات التي أوصلت إليها كانت خاطئة وأن الاستمرار فيها يجعل من حل هذه المشكلة الأمنية مسألة في غاية الصعوبة.