عروسة المولد.. سما حسن

الخميس 30 نوفمبر 2017 10:49 ص / بتوقيت القدس +2GMT



 

 لي مع "عروسة المولد" ذكريات كثيرة، والشعوب العربية قد عرفت هذه العروسة من خلال الأفلام المصرية القديمة خاصة، حين كان الأب يخرج بطفلته ليشتري لها العروسة، وتكون مطلباً غالياً لموظف بسيط، فيما يهدي الحبيب حبيبته تلك العروس حين يصطحبها خلسة عن الجميع صوب المولد، والمولد لا يقصد به المولد النبوي الشريف والاحتفال به، فقد أضفى المصريون بعض الموالد على هذا المولد، فلم يتوقفوا عن اكتشاف كرامات أو اختراعها لبعض الأولياء والصالحين مثل السيد البدوي، بل إن عادل إمام قد اخترع في لحظة" زنقة" وليا جديدا حين وجد نفسه عاريا في وسط شوارع القاهرة فابتدع ذكرى مولد ولي جديد هو "مولانا أبو العريان" والذي يجب التعري في ذكراه من الملابس فلم يعارضه أحد على أساس أن مشاكل الحياة قد أصابت الناس بجهالة عن معرفة الاولياء وربما الأنبياء.
شغفت بمنظر عروسة المولد الجميل رغم أنني كنت أراها من خلال شاشة التلفزيون الأبيض والأسود في بيتنا في غزة، وبمجرد أن سافرت مع عائلتي في العام 1980 ولأول مرة في حياتي إلى مصر، طلبت من والدي ان يشتري لي عروسة المولد من ميدان العتبة، وكان الوقت هو شهر كانون الثاني من ذلك العام وحيث كانت تحل ذكرى مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد انبهرت فعلا بأشكال والوان العرائس المصفوفة، والمرصوصة في تناسق جميل قام به البسطاء من الباعة، أما جمال ألوان زركشتها فهذه حكاية، وكنت أرى العرائس من بعيد ويد ابي تمسك بي لا أتوه وسط الزحام، وحين أصبحت العروسة بين يدي أصبت بالصدمة، فزركشتها هي بعض الورق الملون الرخيص، أو بعض الورق الأبيض الذي تم تلوينه بطرق بدائية وصبغات عجيبة مثل أوراق البصل، وحبات البنجر، أما التاج الذي يحيط برأسها فقد كان مشبوكاً بالرأس والجذع بأسلاك رفيعة صدئة من الخلف وبعض قطع الخشب كتلك التي نعثر عليها وسط حبات الآيس كريم، أما الكارثة الكبرى بالنسبة لحلم طفلة مثلي فهو طعمها، فقد قضمت قضمة من طرف فستانها المغطى بـ "الكرانيش" فكان طعمها كريها وهو عبارة عن عجينة مركزة من السكر أصابتني بالغثيان.
غضبت على عروسة المولد التي طالما حلمت بها، وكنت أراها في مناماتي، وهناك من أخبرني أنها تلف وتدور في الليل، وتروي الحكايات أيضا بهمس محبب للصغيرات المولعات بالخيال منذ صغرهن، ولكن ذلك لم يحدث في أي ليلة قبعت فيها تلك العروسة القبيحة في غرفتي، فقررت أن أرميها من الشرفة وقد فعلت وسمعت صوت سقوطها المدوي في صبيحة أحد الأيام الشتوية، تعلمت درسا لن أنساه وهو أن الحقيقة ليست إلا ما تلمسه بيدك، أما الخيال فهو يخدعك وحين تكتشف حقيقته فهو يوجعك.
عروسة المولد مثلها مثل الكثير من الصناعات المبهرة التي لا نعرف طريقة تصنيعها وتصل إلى أيدينا وتضر بصحتنا حين نتناولها، ولم تقصر الاعلانات التجارية في الترويج لأصناف من الصابون والمكرونة والجبن الأبيض المغلف بعلب من الكرتون المقوى، ولكن أضرارها الصحية بالغة، وقد ضبطت مباحث التموين المصرية_كمثال_ مصنعا لصنع الجبن الأبيض المغلف في "بير سلم" احدى العمارات القديمة وحيث يتم غش الجبن باضافة القليل من الاسمنت له لمنحه لونه الابيض الناصع.
والمولد نفسه، أي ذكرى ولادة النبي محمد تم استنساخه، واصبح في كل بلد عربي مولد يفد إليه الناس من كل حدب وصوب، ولم تقصر الافلام المصرية أيضا فجعلت المكان الواسع الذي يتم الاحتفال به بمولد أحد الأولياء ما هو إلا ساحة للسرقة والكذب والنصب والاحتيال، والإيقاع بالبسطاء والتحرش بالفتيات وملاحقتهن، بل واختطاف الصغار كما حدث ضمن أحداث فيلم عادل امام الشهير "المولد".
الطفل المختطف ظلت عالقة في ذهنه أجواء المولد التي اختطف فيها من أمه بسبب الهرج والمرج السائد فيها، وكذلك لجوء البسطاء لمثل هذه الأماكن للدعاء والتضرع أملاً في قضاء الحاجات بمساعدة الولي او الرجل الصالح الذي يسمى المولد باسمه.
مرت السنوات وبلغ التقدم مبلغه مع العالم، ولكننا كعرب ومسلمين لا زلنا لم نصل للحكمة من إحياء ذكرى مولد النبي محمد، ولكننا ننظر له كيوم إجازة فقط والتهام الحلوى المخصصة لهذا اليوم مثل العوامة والكنافة، ولا زلنا نخدع بالمظاهر والخيالات وما يرويه الآخرون كما خدعت أنا بـ"عروسة المولد".