تعلمنا على مدى عشر سنوات عن هذه اللازمة بل الآفة المرضية التي ترافق حركات التحرر الوطني، والتي تسمى الانقسام او التفكك. حتى نكاد نمتلك نظرية حول هذا الانقسام والشقاق، والذي قال يوماً عنه عرفات عبارة شهيرة «إن الثورة التي تخشى الانقسام لا تستحق البقاء». وكان هذا القائد بل المعلم والثوري المحترف وكأنه يسلم بهذه القدرية التي لم تسلم منها أي ثورة أو حركة تحرر مشابهة.
وها نحن نتعلم الآن بعد التفكك كيف يمكن إعادة التركيب او بعد الانقسام او الطلاق كيف يمكن ان نعاود الزواج، او كما نحب ان نسميها المصالحة، كيف نتصالح او نقوم بهذا العمل الذي يمكن ان نصفه بالتطهر او الشفاء الذاتي من الخطيئة او المرض؟. وقد طرحنا هنا مرة هذه المسألة عن هذا التطهر او الطهارة التي ربما يجدر البدء بها لتنقية الذاكرة، لماذا يحدث هذا المرض او كيف حدث في الحالة الفلسطينية؟ لكيما نستطيع إخراج «الجني» أو الشيطان من الجسم المريض كما كان الطب القديم يفعل، وهي الوصفة الطبية الشعبية ما قبل الطب الحديث والتي يعود إليها هذا الطب الأكثر حداثة وتسمى إخراج الطاقة السلبية، السبب الرئيسي للمرض في الجسد.
هيا نعود بالذاكرة الى العام 2006 بعدإجراء آخر انتخابات تشريعية، لكي نكتشف هذه الطاقة السلبية التي برزت منذ ذلك الوقت وظلت تنمو وتكبر. واليوم لعلها المسألة التي تختزل كل المشكلات او العوائق او ما يرافق صراعنا مع آثار الانقسام من اجل تحقيق المصالحة، وان هذه الطاقة السلبية او الجرثومة المرضية لدينا اليوم انما يمكن اختزالها او اختصارها بغياب او فقدان ثقافة او تقاليد الشراكة الوطنية، او فن اقامة هذه الشراكة او التدرب عليها، لا بين اليمين واليسار في عقدي السبعينات والثمانينات حيث كانت الهوة واسعة في توازنات القوى، وكان الخلاف او التناقض أيدولوجيا اكثر منه انقسام مفصلي جغرافي وواقعي.
ولكن شراكة بين قوتين شبه متعادلتين او متقاربتين في توازنات القوى، يوجدان منذ عشر سنوات في تلك الحالة التي يزخر بها التاريخ من التنافس او الصراع، الذي يشبه السباق او التصادم بين قاطرتين تحاول احداهما إزاحة الآخر. ويساعد على إحداث هذا الصدام واقع جغرافي هو نفسه منقسم وسيولة في التحالفات الممكن إقامتها على المستوى الاقليمي.
لهذا السبب بدت لنا العملية التي جرت العام 2006 والتي كان الهدف منها بتصور الرئيس أبو مازن إدماج حركة حماس في النظام السياسي الفلسطيني، والتي جاءت نتائجها بمثابة انقلاب صادم انها يمكن ان تماثل ما حدث العام 1977 في الانقلاب التاريخي ايضا لحزب الليكود على ثلاثين عاماً من تفرد حكم حزب العمل لإسرائيل. وفي العام 2006 الفلسطيني أي انقلاب حماس على حركة فتح، فقد كان هذا اختبارا حاسما للفلسطينيين على مستوى الثقافة السياسية بنفس الدرجة للاختبار الذي وجدت فيه الأحزاب الإسرائيلية نفسها بعد العام 1977، والذي انتهى في إسرائيل بالتوصل الى إقامة حكومات الشراكة برأسين متوازنين او متساويين بين العمل والليكود.
وإزاء الخوف الذي استقبل فيه العالم الغربي والعربي فوز الليكود الأيدولوجي المتطرف، قام حزب العمل اليساري بتقديم التغطية السياسية لشخصيات أمثال شامير وشارون، ذوي سجل حافل في ارتكاب المجازر ضد الفلسطينيين أصحاب سوابق وسمعة سيئة الصيت. وانتهى الامر عندنا الى مأساة وليس اكتساب تجربة جديدة. لم تعترف او تسلم فتح أي حزب السلطة بهزيمتها الانتخابية، ولم تستطع حماس ان تحكم بدون سلطة فعلية أي «القوة التنفيذية» الموازية. وهكذا بعد سنة واحدة حدث الانقلاب بالسلاح هذه المرة بعد فشل الانقلاب او التداول السلمي على السلطة، وكان العامل الغائب او المفقود هو القدرة على إنتاج الشراكة.
وهكذا بدل اكتساب تجربة التداول السلمي والتدرب على الشراكة تعلمنا تجربة الانقسام لمدة عشر سنوات، التي كانت أشبه بالتيه السياسي او الانحراف البعيد عن الصراط المستقيم، أي الطريق المستقيم والأقرب بين نقطتين فاصلتين التي من شأن السير عبرها إغناء النظرية التي هي في تعريفها البسيط تراكم الخبرة والذكاء الجماعي.
واليوم نقف امام المفترق القديم نفسه مع انقلاب الأدوار، وهنا اقول موافقاً ما ذهب اليه رباح مهنا القيادي في الجبهة الشعبية من «انه مخطئ من يعتقد ان «حماس» ذاهبة الى المصالحة من موقع الهزيمة». فصحيح انها فشلت في حكم غزة منفردة، وكان الامر ينتظر رجلا مثل يحي السنوار لإخراج «حماس» من هذا المأزق.
ولكني أحاول عبر هذه السردية الوصول الى استنتاج مفاده انه سيكون من الخطأ لو اعتقدنا انه بالإمكان الاستناد الى إقرار حماس بفشلها الحكم منفردة، إعادة الوضع في غزة الى ما كان عليه الحال قبل العام 2006. وانه علينا ان نتعلم الآن هذه القدرة على ملاقاة كلانا الآخر عند منتصف الطريق، لإعادة إنتاج التسوية او المصالحة الخلاقة التي تقوم على الشراكة بعد أن ثبت فشل كلانا في الحكم دون الآخر.
وهذه هي القصة: أدت صدمة 1948 الى صعود منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة احمد الشقيري وانتهاء دور الحاج أمين الحسيني، وادت صدمة 1967 الى سيطرة حركة فتح وحقبة الفصائلية بقيادة ياسر عرفات، وادت صدمة 1982 بفقدان فتح والمنظمة قاعدتها في لبنان الى ولادة حركة حماس عام 1987. ولكن الفارق التاريخي ان فتح بقيادة زعيمها الملهم عرفات تمكنت من البقاء بل ونقل قاعدتها الى الداخل في فلسطين، ما يعني اننا بإزاء معادلة قوامها عدم قدرة الطرفين إزاحة الآخر، والسير عبر قاطرة تاريخية واحدة مشتركة.
وهذا هو اختبار المصالحة الآن، اختبار لمجموع ذكائنا السياسي الجماعي الأخلاقي والقيمي معا، وفي كل ما يتصل بإيماننا او أفكارنا عن التعددية والتنوع في الاندماج في نظام سياسي متحد.