عرفات العائد إلى غزة..حسين حجازي

السبت 11 نوفمبر 2017 01:40 م / بتوقيت القدس +2GMT



جئت في المرة الأولى إلى المدينة هكذا متخفياً سراً ربما أحد لا يعرفك، وفي بيت من الطين في بلدة بيت لاهيا اتخذت لأيام أمضيتها مخبأ أو مكاناً مستتراً لا تتجه إليه أنظار العدو، لكي تقضي المهمة التي خاطرت مبكراً بحياتك من أجل إتمامها. وربما في تاريخ قريب كان هذا الزمن يشبه ذهاب تشي جيفارا إلى إفريقيا متنكراً، وبعد ذلك في أميركا اللاتينية لكيما يشعل شرارة الثورة فيما يسمى آنذاك بالبؤر الثورية.
ولقد تبدو هذه الرحلة أو المغامرة السردية الأخيرة للرواية استكمالاً لاجتياز الحدود من جنوب لبنان وسورية، للقيام بالعمليات الأولى بعد وقت قصير من إنشاء العاصفة قبل زمن عاصفة الحزم وعاصفة الصحراء، فلقد كان اسمها العاصفة التي سوف يتخرج من رحمها جيش الفدائيين، وكنت أنت آنذاك صانع هذا الجيش، الذي جئت إلى المدينة بعد القدس لتؤسس نواته الأولى في الأراضي المحتلة عام 1967. 
وكان اللقب الذي استعرته في تحركك هو «الدكتور» لكن ما سيكون له الوقع الأول في خيال الفلسطينيين هو اللقب الذي سوف يظل عالقاً في ذاكرتهم أبد الدهر «أبو عمار». وكأنك في حدس شعبك أدركوا منذ ذلك الوقت أنك ما كنت أباً لواحد منهم أو أحد رجالهم، ولكن ما ستكون منذ عمرك في الثامنة والثلاثين أباً لجميعهم أبو الشعب الفلسطيني. 
وهكذا تولد الأساطير تماماً كما جميع الشخصيات التاريخية التي لعبت دور البطولة على المسرح العالمي، ومن هذه الأدوار التي تميزت بالبطولة والجرأة الاستثنائية والشجاعة ونكران الذات والمقدرة الفذة على القيادة والحكمة تنسج الأساطير أو تنشأ في التاريخ. وقد توقف مرة شمعون بيريس عن الكلام وقال: ما الذي يمكن أن نقوله أمام الأسطورة؟
لكن سوف تعود في المرة الثانية في الأول من تموز العام 1994 كما الفاتحين، «وتفتح المدن» كما يقول الشاعر، وسط ترقب العالم للحدث التاريخي وأمام عدسات الصحافة والتغطية المباشرة لشاشات التلفزيون العالمية، بضع صليات من إطلاق النار في الهواء بالتزامن مع وصول الموكب إلى مقر المجلس التشريعي الذي يطل على ساحة الجندي المجهول، حين كانت في عهد مضى تضاء بالأنوار الكاشفة وسط إطلاق الألعاب النارية في السماء احتفالاً بأعياد النصر المصرية لنظام ثورة عبد الناصر.
وليس هذا يشبه الحفل الافتتاحي لنصر يقام على مجرد حكم ذاتي، وإنما في وعي جمعي إيذاناً بهذه الصليات الافتتاحية لبداية استئناف مسير الرتل أو القافلة من هنا على أرض فلسطين، من أجل إقامة الدولة وعاصمتها القدس، يرونها بعيدة ونراها قريبة.
نرضى ونأخذ القليل لكي نبني عليه. وإن خوض المعركة على أرض فلسطين أفضل مئة مرة من أن نخوضها من على السياج أو تحت رحمة نظام عربي كان قد دخل طور الاهتراء. ولم تكن تونس في البعد الجغرافي تصلح إلا للابتعاد عن سطوة حافظ الأسد، لكنها ما كانت تشبه بيروت ولا كانت حمامات الشط صورة أخرى عن حي الفاكهاني، حتى وإن وصلت الطائرات الإسرائيلية لقصفه لقتل عرفات، وكان عليه أن يجد أخيراً الملاذ والعرين بل هانوي الجديدة بين شعبه في غزة أو رام الله، لا يضطر أخيراً لأن يحيط رأس زين العابدين الرئيس التونسي بكفي يديه، ويقبله من رأسه ويخاطبه «زين العرب».
ولكن كما لو كان في هذا التاريخ، حيث كان التاريخ يطلق صهيله في ساحة الجندي المجهول على موعد مع قدره، وهو القائل دوماً: «لا أحد يهرب من قدره «. وأراه في صورة أخيرة مسترخياً في ضحى يغمره دفء أشعة شمس الشتاء، جالساً يقرأ من المصحف الشريف سورة من القرآن. «يا حامل مشكاة النور بعينيه ترنم من لغة القرآن فروحي عربية»، شفى الله الشاعر مظفر النواب. وكأنه يلقي سلاماً على الأرض، سلاماً أخيراً في حصاره الأخير، أو هكذا يتحضر لوداع وشيك وقد عمل كل ما عليه من عمل النهار.
من حرب الثلاثين عاماً على القوس الممتد من خليج العقبة إلى رأس الناقورة على السياج المحيط بفلسطين، إلى حرب السنوات العشر المكملة من العام 1994 إلى العام 2004، التي خاض خلالها أم معاركه الحقيقية وأقساها من تحت إبط الوحش، فيما يسمى انتفاضة الأقصى أو الثانية.
لكن النسيان لن يطفوا على ماضيك أو ذكراك، ولا نتذكر اليوم بعد ثلاثة عشر عاماً على الحادي عشر من الشهر الحادي عشر، لأن شعبك لم ينسك. ومن كان مثلك في تاريخ الأمم فهم الباقون في ذاكرة شعبوهم إلى أبد الدهر، ولقد كرهك أعداؤك في حياتك لأنهم كانوا يخافون منك أو يهابونك، وكنت مهاباً وكنا نستمد هذه الهيبة والمكانة نحن الشعب العربي الفلسطيني من انعكاس صورتنا على ملامح وجهك في ثبات هيئتك التي تشبه الجبل أو لعله الأسد.
واليوم تأتي إلى المدينة حاضراً بروحك وهيئتك للمرة الثالثة والأخيرة، لتلقي السلام على أبناء شعبك في غزة. وليلقوا السلام ثلاثياً على روحك، يوم ولدت ويوم رحلت ويوم تبعث حياً، ولقد ظنوا أنهم بقتلك سيتخلصون من رسالتك وأن العهد الذي هو العهد سوف يتبدد أو ينتهي، اعتقاداً بأن قتل الرسول يفضي إلى التخلص من رسالته. لكن ما يحدث اليوم هو أن الفلسطينيين لم يجمعوا عليك أو يتوافقوا حولك كما هم الآن، واليوم لعلهم أي أعداءك يدركون أنهم ما قتلوك أو تخلصوا منك ولكن شبه لهم فالعهد بقي هو العهد والقسم هو القسم.