لفت انتباهي صديق وأخ عزيز أن "داعش" الدولة قد اندثرت، لكنا لا نزال نجهل الكثير عنها، مضيفاً: أو لم تلق القوات الأميركية والكردية القبض على المئات منهم في الرقة؟ لماذا لا يكشفون عن المعلومات التي حصلوا عليها منهم؟
"داعش" كانت وما زالت أحد المواضيع المثيرة للاهتمام لأنها تمكنت في أقل من عامين من السيطرة على ثلث مساحة العراق وعلى نصف مساحة سورية، ولأن "وحشيتها" قد فاقت الخيال.
ولأنها أيضاً قد استغلت من قبل النظام السوري للتدليل على خطورة معارضيه على الأمن والسلم العالميين، ومن قبل معارضيه للادعاء بأن الاستبداد يدفع جزءاً من الناس للتطرف، وإن استمرار هذه الأنظمة في الحكم يؤدي بالضرورة الى إعادة إنتاج "داعش" بمسميات جديدة.
كتنظيم، "داعش" معلوم الهوية. هو أحد أجنحة "القاعدة" التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي في العراق بعد الاحتلال الأميركي له العام ٢٠٠٣ تحت مسمى جماعة التوحيد والجهاد. بعد مبايعته للقاعدة العام اللاحق، أصبح يعرف بتنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين.
في العام ٢٠٠٦، أعلنت "قاعدة الجهاد" قيام الدولة الإسلامية في العراق في المناطق السنية دون أن يكون له سيطرة فعليه عليها.
هذا التنظيم تم القضاء عليه من قبل الصحوة الإسلامية، وهي عبارة عن مجموعات من المقاتلين من أبناء القبائل العراقية السُنيِّة التي تمكنت أميركا من تشكيلها بعد أن كادت تؤدي الجرائم التي ارتكبتها "قاعدة" العراق بحق "الشيعة" الى حرب أهلية.
رفضُ نظام المالكي في العراق ضم هؤلاء المقاتلين الى الجيش العراقي، وسياسة التمييز التي مارسها ضد العراقيين السُنَّة، أعطت تنظيم القاعدة في العراق طوق النجاة، حيث تمكن من إعادة بناء نفسه في المناطق السُنيِّة العراقية.
مع بداية الأزمة السورية، أرسلت "قاعدة" العراق، أبو محمد الجولاني ــ سوري الأصل، فانتقل الى العراق العام ٢٠٠٣ وانضم الى القاعدة لمقاتلة القوات الأميركية ــ لسورية لتشكيل "جبهة النصرة" وطُلِبَ منه عدم الكشف عن ارتباط النصرة بـ "قاعدة" العراق حتى لا يثير ذلك حفيظة القوى الداعمة للمعارضة السورية، والتي كانت "النصرة" كجزء منها تحصل على هذا الدعم.
في العام ٢٠١٣ قررت "قاعدة" العراق برئاسة أبو بكر البغدادي الانسلاخ عن "القاعدة الأم" برئاسة الظواهري، وأعلنت أن "النصرة" هي تنظيم تابع لها وألغت مسمى الدولة الإسلامية في العراق، لتصبح الدولة الإسلامية في الشام والعراق، ومن هنا كلمة "داعش".
"النصرة" أعلنت تمسكها بالقاعدة الأم ورفضها لقرار البغدادي، لكن ذلك لم يمنع العديد من أعضائها من تركها والتحول الى "داعش".
ذروة صعود داعش كانت في حزيران العام ٢٠١٤، عندما تمكنت من طرد القوات العراقية من الموصل والاستيلاء على أسلحتها وعلى مئات الملايين من الدولارات بالإضافة الى العديد من الحقول النفطية.
الأسلحة والأموال التي تم الاستيلاء عليها تم استخدامها لتنظيم الآلاف من المقاتلين ولتوسعة حدود "الدولة الإسلامية" في العراق وسورية.
هنالك مئات المقالات الأكاديمية والكتب عن "داعش" وبالتالي هنالك معلومات كافية عن جذورها التنظيمية والفكرية وعن قياداتها ومصادر تمويلها لأنشطتها، وأساليب عملها.
ما لا نعلمه حقيقة عنها ويحتاج الى بيانات يتعلق بأربعة ملفات:
المقاتلون الأجانب في صفوفها: ما هو عددهم الحقيقي؟ من أية بلاد جاؤوا؟ كيف دخلوا الى سورية والعراق؟ ومن سهل لهم ذلك؟
يقال بأن أكثرية "الدواعش" العرب هم من تونس، والسعودية والأردن؟ وأن أكثريتهم من غير العرب قدموا من فرنسا وبريطانيا وبلجيكا؟ هل هذه المعلومات دقيقة؟ هل لديهم تنظيمات في هذه الدول سهلت عملية تجنيدهم؟ ماذا يقول "الدواعش" الذين تم اعتقالهم حول هذا الموضوع؟
ملف النفط: يقال بأن "داعش" حصلت على مبالغ طائلة من تجارتها بالنفط العراقي والسوري، وأن هذه التجارة كانت مع تركيا والتي بدورها نفت ذلك. هل هذه المعلومات دقيقة؟ هل التجارة كانت فقط مع سكان المناطق التي استولت "داعش" عليها أم مع دول؟ إن كانت مع دول، من هي هذه الدول؟ هل كانت هذه التجارة بعلم حكوماتها أم مع أفراد منها استغلوا الأزمة السورية والعراقية لتحقيق مرابح خاصة؟ من هؤلاء الأشخاص ولماذا لا يقدمون للمحاكم؟
علاقات "داعش" الخارجية ومصادر تسليحها: الكل يتنصل من داعش بسبب همجيتها ووحشيتها، لكن أطراف الأزمتين السورية والعراقية تتهم بعضها البعض بالتعامل مع "داعش." النظام السوري إتهم خصومه من الدول وخصوصاً تركيا، بتسهيل قيام "داعش" بالاستيلاء على المعابر البرية والتعاون معها بما في ذلك اقتسام رسوم العبور من والى تركيا. واتهم خصومه بتسليحها بشكل مباشر، وأحياناً من خلال جماعات معارضة أخرى له.
خصوم النظام من الدول والمعارضة اتهموه بتسليم العديد من المناطق لها حتى تبدو "داعش" كما لو أنها الطرف الأكثر فاعلية في المعارضة من أجل إقناع الآخرين وشعبه تحديداً بأن هذه المعارضة لن تجلب الحرية له بل الموت والدمار. ما حقيقة هذه الاتهامات المتبادلة؟
علاقات "داعش" الداخلية مع المعارضة السورية: نعلم بأن داعش قد اقتتلت مع كل طرف عارضها في سورية، ونعلم بأن هنالك بعض الجماعات المعارضة قد التحقت في صفوفها إما طوعاً أو كرهاً.
لكننا في نفس الوقت لا نمتلك معلومات عن المفاوضات التي تمت بين "داعش" وأطراف من المعارضة السورية والتي كانت تتم أحياناً كثيرة قبل الاقتتال؟ على ماذا كانوا يتفاوضون؟ أية مواضيع اتفقوا عليها وأية مواضيع اختلفوا عليها ودفعتهم لقتل بعضهم البعض؟ من هي الأطراف في المعارضة السورية التي تقف مع "داعش" وما هي الحقيقة بشأن خلافها مع "النصرة" ومع "القاعدة" عموماً؟
الإجابة على هذه الأسئلة تميط اللثام عن الكثير من المواضيع الإشكالية التي يتداولها عموم الناس على أنها حقائق مثل: أميركا هي من أسس داعش وأن ترامب أحياناً وهيلاري كلينتون أحياناً أخرى قد اعترفا بذلك (هذا يقال على السوشيال ميديا دون تمحيص أو فهم للسياق الذي قيل فيه ذلك).
للبعض ممن تحركهم الأيديولوجية أكثر من الحقائق: أميركا وعبر تحالفها مع أكراد سورية "حررت" الرقة أو "دمرتها" وأن لديها المئات من المعتقلين "الدواعش"، لكنها لا تفصح عن ذلك لأنها لا تريد أن تنكشف العلاقة بينهما. ينسى هؤلاء أن الروس، النظام السوري، وإيران، هم أيضاً لديهم الكثير من المعتقلين "الدواعش" لكننا لم نشاهد اعترافاتهم أيضاً!
رغم ذلك يمكننا القول بثقة أن أميركا لم ترغب بهزيمة "داعش" لأنها كانت ترغب بإطالة الأزمة السورية أكبر قدر من الوقت الى أن يستنزف جميع خصومها أنفسهم وأنها سرعت في الحرب الفعلية عليها بعد أن هَزمَ النظام السوري وحلفاؤه خصومهم. بمعنى، قرار الحرب على "داعش" كان في جوهره سياسيا ولم يكن تقنيا كما تم الادعاء.
يمكننا القول أيضاً وبثقة، أن النظام السوري وحلفاءه قد أجلوا الحرب على "داعش" لأنها أولاً كانت بعيدة عن مناطق سيطرتهم وبالتالي كانت الأولوية لمحاربة من يهدد وجودهم في المناطق الواقعة تحت سلطتهم. وثانياً، أن وجود "داعش" سهل وصف المعارضة بالإرهاب وكان عامل مهم في إقتتالها مع بعضها، وهذا من مصلحة النظام.
هذه الحقائق على أية حال، لا تكفي لاتهام أميركا أو خصومها بوجود علاقةٍ "ما" بينهم وبين "داعش." وحدها الاعترافات الموثقة والمذاعة من قبل قيادات "داعش" يمكنها بيان الحقيقة بشأن هذا التنظيم.