الحرب الإعلامية في أزمة الخليج..حسين حجازي

السبت 28 أكتوبر 2017 01:29 م / بتوقيت القدس +2GMT



أنتقدُ هنا في وقت مبكر من نشوء الأزمة السورية قناة الجزيرة، لما اعتبرته أنها مارست في خطها الإعلامي ضخاً إعلامياً مرعباً ومخيفاً، ساهم الى حد كبير بتأجيج هذه الأزمة التي رأيتُ أنها كانت مفتعلة لقتل الدولة السورية. قام بأداء الأدوار في هذه اللعبة المدمرة أطراف إقليمية، وعلى الوجه الأخص دول خليجية وأُخرى دولية أوروبية واميركية الى جانب إسرائيل. وكان الهدف كسر المحور الإيراني السوري وحزب الله وحماس، الذين ظهروا وكأنهم يمثلون توازن قوى مضاد لسياسات الغرب وإسرائيل في المنطقة، بعد ان تم تحطيم الدولة العراقية عبر الغزو الأميركي العام 2003.
وكنت ولا أزال أرى انه ربما كان خطأ قطر وتركيا في ذلك العام العاصف الذي عاشته المنطقة العربية كلهيب حارق، الذي ارتكبته قطر وتركيا انما يتمثل في تدخلهما الحاسم بإذكاء نار الأزمة السورية. واليوم لعلهما ليسا الطرفين الوحيدين اللذين يدفعان ثمن هذا الخطأ القاتل، حيث يصل لهيب هذه الأزمة الى عقر دار مجلس التعاون الخليجي المعقل الأخير للعمل الجماعي العربي، كما أشار محذرا أمير الكويت حفظه الله في خطابه قبل ايام امام مجلس الامة الكويتي. 
وها نحن شهود الآن على انتقال قناة الجزيرة والاعلام السعودي والإماراتي المضاد، الى ما يشبه الحرب الإعلامية الطاحنة والتي لم يسبق لها مثيل من داخل البيت الخليجي الآمن، حربا تشي بحكاية فصل جديد في قصة او سيرة الإعلام العربي في عهد ما بعد عملية نزع الاستعمار ونشوء الدول العربية الحديثة، كواحدة من العلامات على الطريق في تاريخ هذا الإعلام.
وقد يمكن وصف هذه الحرب الاعلامية انها تدور فعليا وبطريقة مباشرة بين طرفين يملكان السطوة المالية وأدوات الإعلام، هما قطر من جهة واداتها مدفعيتها الثقيلة قناة الجزيرة، والسعودية ودولة الإمارات من جهة مقابلة. ولكن ميدان هذه الحرب مساحتها الأهم انها تجري كمبارزة حامية الوطيس في واشنطن، أي عبر الصحافة ولوبيات الضغط والعلاقات العامة، وشراء ذمم الصحافيين وكُتّاب مقالات الرأي، وحتى معاهد الأبحاث ومراكز الدراسات بما في ذلك الخبراء وشخصيات ذات نفوذ أمثال دينيس روس وستيف بانون وغيرهم، ممن يملكون القدرة على التأثير في الرأي العام وعلى الإدارة الأميركية، ومن واشنطن الى العالم. 
وهذا هو التحول الذي نشهده الآن في هذا الفصل الأخير من حروب الإعلام في الشرق الأوسط، الذي يدور هذه المرة بين الملكيات والإمارات، بعد ان كانت هذه الممالك او الإمارات تمارس منذ زمن طويل التأثير الإعلامي على أنظمة الحضر والساحل او الجمهوريات، من حصنها المنيع في الصحراء. ولكن هدف التقاتل او التراشق الإعلامي الجديد بين الأخوة الأعداء اليوم، ليس التأثير على الأنظمة في دمشق وبغداد او القاهرة، وانما السعي الى كسب ود الحليف الأميركي. أي ان يكون معنا وليس معهم.
وقد يجوز ان نصفها او نسميها كذلك بالحرب الإعلامية العربية الثالثة، اذا كانت الحرب الأولى هي التي شهدناها في عقدي الخمسينات والستينات زمن الناصرية القومية، وكان ميدانها القاهرة وبيروت التي كانت صحافتها تنوب عن السعودية في مواجهة صوت العرب وصحيفة الأهرام المصرية وقوة عبد الناصر الخطابية، وحتى الفنانين المصريين والسينما المصرية، التي كانت جميعها تلعب دورا إعلاميا لا يمكن مقاومته. على غرار شبكة الجزيرة الإعلامية التي تملكها اليوم قطر، بما تتميز به من تفوقها المهني وامتدادها الإعلامي الدولي حول العالم، والقدرة التي تتمتع بها او تملكها من جيش هائل من المراسلين حول العالم، وعلى الضخ الإعلامي المكثف وانتهاج سياسة تحريرية اكثر ذكاء من جميع منافسيها في القدرة على الإقناع والجاذبية.
اما الحرب الثانية فهي التي شهدنا ذروتها في عقد السبعينات والثمانينات زمن الصحافة المهاجرة الى باريس ولندن، بين مموليها حصرا من الدول العربية النفطية ليبيا والعراق من جهة، والسعودية ولاحقا قطر من جهة أُخرى. وهي الحقبة التي سوف تنتهي بالتفوق الكاسح للسعودية ودول الخليج، وتراجع المنافسة العراقية والليبية قبل ان يتراجع دور الصحافة الورقية عند منتصف التسعينات، مع بروز دور الفضائيات العربية وانطلاق قناة الجزيرة الإخبارية العام 1996، التي مثلت بحق ثورة في الإعلام العربي سوف تحاول السير على تقاليدها فضائيات عربية أُخرى، ولكن دون نجاح في منافستها كقناة العربية التي تبث من الإمارات وتمولها السعودية.
إن نار الأزمة ولعل الأصح «فتنة اشد من القتل» سوف تنشأ الآن كما لو انها جمرة خبيثة ولكن راقدة تحت الرماد. واذ شعرت الدولة الكبيرة في الخليج والتي بدت الى الآن وكأنها تلعب دور الأخ الأكبر، وفي ظل فراغ قيادي في العالم العربي تمثل بعزوف حسني مبارك عن لعب هذا الدور، بالتهديد الإعلامي والسياسي الجديد الذي اصبح يتجسد بهذا التحول، حين ظهر لأول مرة ان بإمكان دولة صغيرة الحجم من الناحية الجيو إستراتيجية ان تلعب دورا إقليميا يتجاوز مفهوم توازن القوى التقليدي، اي اكبر من حجمها. ما اضطر في وقت من الأوقات الرئيس المصري مبارك للذهاب الى الدوحة، أثناء إعداد نجله جمال لخلافته لطلب رضا او سكوت الأمير القطري عنه، والتي سوف تلعب قناة الجزيرة دورا حاسما بالإطاحة به فيما بعد.
واذ بدت سياسة الامير الأب وفيما بعد الابن على صورة السياسة الإعلامية لقناة الجزيرة أقوى أدوات الأسلحة التي تملكها الدولة القطرية الصغيرة، سياسة قوامها الانفتاح وإقامة الجسور مع جميع أحزاب وحركات المعارضة في العالم العربي والإسلامي، بما يخترق الخطاب الإعلامي العربي التقليدي او القديم. فان هذه السياسة المدعومة بقوة مالية تستطيع التأثير عبر المساعدات والاستثمارات شراء مواقف دول. الأمر الذي كان يطرح معادلة جديدة اولا في اطار مجموعة دول الخليج حول الصراع على القيادة، أي من هي الدولة القائدة في العالم العربي؟.
ولقد كانت هذه هي جذور الازمة الخليجية الراهنة. واذ رأينا الآن ما يشبه مثلثا رأس الهرم فيه السعودية وضلعاه مصر والامارات، في مواجهة قطر في الصراع على هذه القيادة. فانه على مستوى الحرب الإعلامية الدائرة الآن بين طرفي الأزمة الخليجية، يمكننا فقط في لعبة تقاسم الأدوار استبدال رأس الهرم فقط بوضع الإمارات مكان السعودية.
وها نحن شهود على هذه الحرب التي لم يسبق لها مثيل في أدواتها والميدان او الساحة التي تدور رحاها عليها، ليس في بيروت الساحة التقليدية بل والتاريخية للحروب الإعلامية السابقة، ولا حتى لندن وانما في قلب وعقل الرأسمالية العالمية أي الولايات المتحدة وزعيمة العالم. وهي الحرب التي سوف تضيف الى معرفتنا وخبرتنا الجديدة الانطباع كم ان هذه الرأسمالية التي وصفها مرة كارل ماركس بالمتوحشة، تتحول أيضا الى «رأسمالية عاهرة».
 حين ندرك كم ان ما يحدث من خلف هذه الحرب ان ما يغذيها هي الأموال التي يدفعها طرفا الازمة الخليجية من رشى وصفقات أسلحة، تدفع لسماسرة وأفاقين صحافيين كُتّاب أعمدة ومستشارين ومعاهد أبحاث ودراسات ومؤتمرات وندوات تعقد مدفوعة الأجر، لكي يشوه كلا الطرفين بعضهما البعض.
واذ تستبدل منذ بعض الوقت قناة الجزيرة الضخ الإعلامي المرعب والمخيف، الذي كان متواصلا على مدى السنوات الخمس الماضية ضد نظام بشار الأسد، بهذا الضخ المماثل في قوته ولكن ضد السعودية والإمارات العربية، تقلب كل حجر لتعري خصومها من أي ستر او رداء. فان ما يحدث باختصار هو ان النار بدأت تقترب اخيرا في استدارتها من دول الحضر الى الصحراء. الصحراء في انفتاحها على المجهول، وهذا هو المخيف والمرعب في الأمر.