استيقظت غزّة أمس، يوم الأربعاء، على نبأ رحيل القاصّ مهنّد يونس، في حيّ تلّ الهوى، والذي لم يكمل بعد عامه الثاني والعشرين، لتفقد بذلك مبدعًا آخر من مبدعيها الشباب خلال أيّام قليلة، إذ ودّعت قبله رسّام الكاريكاتير معاذ الحاجّ.
استقبل الوسط الثقافيّ الفلسطينيّ النبأ، ولا سيّما مَنْ يعرفون مهنّد شخصيًّا، أو من خلال نصوصه، بصدمة وغضب كبيرين، إذ جاءت وفاته انتحارًا باستنشاق الغاز السامّ، كما أفاد الناطق باسم الشرطة في غزّة أيمن البطنيجي.
وكان مهنّد، الذي يدرس الصيدلة في جامعة الأزهر، قد فاز بالمركز الأوّل في 'جائزة العودة لقصص الأطفال'، عام 2015، والتي نظّمها 'بديل: المركز الفلسطينيّ لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين'، عن قصّته 'البحث عن الدفء'. كما فاز مرّتين بجائزة 'الأجناس الأدبيّة لطلبة جامعات غزّة'، التي تنظّمها وزارة التربية والتعليم في القطاع، إذ حصل على المركز الثاني في فئة المقالة عام 2014، وعلى المركز الأوّل في فئة القصّة القصيرة عام 2015.
ولمهنّد مجموعة من النصوص القصصيّة والمقالات المنشورة في عدد من المنابر الثقافيّة الفلسطينيّة والعربيّة، وله مشاركة في ملفّ خاصّ تحت عنوان 'العرب يكتبون القصّة'، ضمن العدد الخامس من مجلّة 'الجديد' الصادرة في لندن، والتي يرأس تحريرها الشاعر السوريّ نوري الجرّاح، وقد شارك في الملفّ 99 قاصًّا عربيًّا بـ 199 قصّة.
وقد علمت فُسْحَة – مجموعة ثقافيّة فلسطينيّة- أنّ مهنّد تقدّم بمجموعته القصصيّة 'الآثار تترك خلفها أقدامًا'، 'لـمسابقة الكاتب الشابّ' عام 2017، والتي تنظّمها مؤسّسة عبد المحسن القطّان.
ورصدت بعضًا من كتابات أصدقاء مهنّد ومعارفه، يستذكرون فيها مواقف لهم معه، ويتحدّثون عن خصاله، وطموحاته، وإبداعه، ويوجّهون رسائلهم له، كما ينقد بعضهم الواقع الغزّيّ المرّ، ثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، الذي يدفع بمبدع شابّ إلى وضع حدّ لحياته على هذا النحو المؤلم.
أنت الحقيقيّ الوحيد
كتب المترجم أنس سمحان، من غزّة، 'كان هذا لربّما لقائي الثاني أو الثالث بمهنّد، يومها كنّا قد نوينا أن نمشي من غـزّة إلى خانيونس على شاطئ البحر. في نفس اليوم، بات مهنّد يونس عندي في البيت. كان أوّل صديق يفعل ذلك. يومها، كان اليوم الأوّل في العلاقة بين مهنّد ومحمود وليد. في هذا اليوم... بدأنا. واليوم... صارت النهاية ربّما، لقصّة لم يُكتب لها أن تُكتب حتّى. هذه المدينة قاتلة بكلّ ما فيها. أهلها قتلة. حجارتها قاتلة. أمنها قاتل. بحرها قاتل. هواؤها قاتل. حدودها. كلّ ما فيها قاتل. عجيب أنّنا ما زلنا أحياءً. مهنّد... إييه يا مهنّد.. أودّ لو أسبّك الآن وأسبّ كلّ مَنْ كان سببًا في دفعك لهذا. أنت الحقيقيّ الوحيد.. وكلّنا الوهم.'
'لا ينتهبون لهذه الطاقات المدهشة'
وكتب الصحافيّ ومدرّس الكتابة الإبداعيّة علي عبيدات، من الأردنّ: 'انتحر الشابّ الفلسطينيّ مهنّد يونس (22 سنة)، في غزّة، في حيّ تلّ الهوا. انتحر قاصّ عبقريّ عرفته وعمره 19 عامًا، عندما أطلقت موقعي الثقافيّ، ’مقامات’ ... أرسل لي مهنّد نصوصه وتحدّثنا عن حبّه للقصّة، وجيكوف، وكيف يستثمر واقع غزّة البشع لكتابة القصّة. نشرت له أوّل قصّة ’الهاتف الذي لا يكفّ عن الرنين‘، وبعدها قصّة ’الرجل الدبّ‘، وغيرها.'
وأضاف: 'انتحر مهنّد بطريقة بشعة تشبه حياته في غزّة، وحياة الكثير من الغزّيّين. قالوا لي إنّه شرب حبوبًا مؤذية، ولفّ رأسه بكيس بلاستيكيّ، ومدّ خرطوم الغاز لفمه ومات! مات مهنّد أمام وزارة الثقافة الفلسطينيّة، وشيوخ غزّة، وأمام أكثر نسبة مثقّفين في العالم العربيّ، ’المثقّفين الفلسطينيّين‘، الذين يتزعّمون تحرير مجلّات، وصحف، ومؤسّسات الثقافة العربيّة في كلّ مكان، منتشرون، ومقصّرون، وإصبعي في عين أكبرهم، لأنّهم لا ينتبهون لهذه الطاقات المدهشة والنفوس الطيّبة. مات كلّ هذا الجمال، وكلّ هذه الطيبة. مات مهنّد مقتولًا لو كان مهنّد ضمن أيّ فريق من فرق السياسة والثقافة الحاكمة، لما وصل به الأمر إلى الانتحار، لأنّه عاجز عن شراء سجائره، ونشر نصوصه، والعثور على منبر يتبنّى نبوغه في القصّة القصيرة رغم صغر سنّه. تفضّلوا يا كلّ من تهملون الشباب وتتاجرون بحياة الناس باسم انقسامكم وفشل إدارتكم، تفضّلوا وخذوا جثّة مهنّد. نم يا حبيبي يا مهنّد. نم'.
وكتب القاصّ أنيس غنيمة، من غزّة، مجموعة من المنشورات، جاء في أحدها: 'أرسل لي مهنّد مجموعته القصصيّة قبل شهر تقريبًا، ’الآثار تترك خلفها أقدامًا’، أوّل قصّة (عائلة مؤقّتة) قرأتها أكثر من عشر مرّات على الأقلّ. مهنّد كان معجبًا بجميل حتمل ومحمّد طمّليه، وأسلوبه يقارب حتمل أكثر. كنت في بيت صديق منذ أيّام، وتحدّثنا عنه كثيرًا، وكنّا سنتّصل به، لكنّنا لم نفعل مثلما لم أفعل عندما قال لي يهمّني رأيك... لا تنسى. لكنّي نسيت'.
وكتب غنيمة في منشور ثانٍ: 'لم تكن محاولته الأولى للانتحار. كانت الرابعة، تحدّثنا معه كثيرًا... كنّا مبهورين بما يقدّمه من قصص، أخبرته كثيرًا أنّه أفضل مَنْ يكتب القصّة، وكذلك فعل غيري. لكنّه كان شجاعًا أكثر منّا؛ هذا هو الفرق الذي كان يبنيه، مهنّد الذكيّ، والموهوب، والخلوق جدًّا'.
وكتب في ثالث: 'لم يكن مهنّد مهمّشًا من الآخرين من الكتّاب حوله، بل كان مثلهم؛ همّشته الأيادي الطويلة في المؤسّسة. أعتقد أنّه الشخص الذي اتّفقنا جميعًا على موهبته وأحببناه. أنا متأكّد أنّه لم يكن يحمل أيّ ضغينة أو شكوى، إنّه مثلنا، كان يزعجه كلّ ما نحن فيه من إهمال مشترك. وعندما كتبت ضجرًا ما كتبته عن وفد معرض الكتاب، كان إلى جانبي، كتبناه سويّة، لكنّه لم يوقّع على شيء.'
نحبّك بوجودك الناقص
وكتبت إسراء عرفات من نابلس: 'أصحاب الوجود الحقيقيّ لا يقبلون بأنصاف الوجود، يريدونه في حالاته القصوى، إمّا كاملًا أو لا شيء، وهم مستعدّون لمقايضته بنقيضه إذا تكالبت الظروف من حولهم وأفشلتهم في تحقيق وجودهم الحقيقيّ في أقصى درجات كماله وتكامله. مهنّد كان من أصحاب الوجود الحقيقيّ، قرّر الرحيل بصمت وبأنانيّة مفرطة. اختار أن يحرمنا من وجوده ليس لأنّه شعر بالسأم منه، بل لأنّه شعر بالسأم من حالة لا تكامله، لفظ بوجوده الناقص إلى العدم، واختار تكاملًا آخر يحقّقه في فضاء الفناء. يا مهنّد نحن المتفرّجون، المتناثرون حولك في فضاء الوجود الناقص، نبكيك الآن، لا يعنينا تكاملك الذي حقّقته باختيارك طريق الفناء، كنّا نريدك معنا، ونحبّك كما أنت، بوجودك الناقص الذي يشابه وجودنا وترفضه تطلّعاتك الدائمة نحو الأقاصي.'
وتضيف: 'ليس باستطاعتنا أن نغفر لك هذه الأنانية التي اخترت فيها تحقيق تكاملك في فضاء بعيد عن فضائنا، أحببناك في شكل وجودك الذي لا ولم يرضك، وأردناك به بيننا، يحقّ لنا أن نعاتبك الليلة يا جميل، لأنّك لم تقدّر قيمة وجودك جيّدًا على الأقلّ كما هي في حسابتنا، نحن رفاقك الذين لم تعرفنا وكنّا نقرؤك ونتابعك من بعيد مذهولين من كثافة وجودك الكامل وتعدّد أشكاله. كلّ خطوة كنت تخطوها على هذه الأرض كانت في حساباتنا وجودًا كاملًا، كلّ ضحكة كنت تضحكها كانت في حساباتنا وجودًا كاملًا، كلّ قصّة كنت تكتبها كانت في حساباتنا وجودًا كاملًا، كلّ حركة وسكنة لك كانت في حساباتنا وجودًا كاملًا، ألفَ وجودٍ كامل كان لك بيننا يا رفيقي، ألغيتها كلّها لتحقّق تكاملك كما تراه، ألف عتاب منّا على كلّ وجود لك لم تنتبه له وأنت بيننا، وألف مباركة على تحقيق تكامل وجودك الذي أردته، وطمحت إليه، ووصلت إليه أخيرًا في حيّز الفناء'.
شجاعة الحذف
وكتب الشاعر هشام أبو عساكر، من غزّة: 'مرّة قال لي في ’مول الأندلسيّة‘، وفي غمرة انشغالنا بنقاش حادّ مع بعض الأصدقاء، إنّ ما ينقصنا في غزّة هو شجاعة الحذف، قالها وضحك. لم أنسَ تلك العبارة، هذه عبارة لجبران، لكنّه كان يعنيها تمامًا. ظلّت عالقة في ذهني لفترة طويلة، ولم أكن أتصوّر أنّه سيُقدِم في يوم ما على حذف نفسه من لعبة الزمن التافهة هذه.
لماذا يا صديقي؟ لماذا أردت أن تظهر تلك الشجاعة في هذا التوقيت بالذات؟ ما الذي كنت تفكر به قبل موتك؟ أيّ شجاعة وأيّ توقيت، ونحن الذين لم نمتلك الشجاعة حتّى الآن كي نسألك: من منّا ينبغي عليه أن يقول للآخر وداعًا؟ من يا مهنّد؟'
نتعاطف مع فقرنا
وكتب الشاعر ومحرّر 'مجلّة 28'، حسام معروف، من غزّة: 'ذهبت ولم تلتفت، وكأنّ هذا الهراء الذي نمارسه، لا يعنيك، أغمضت عينيك عن الدمى التي تتحرّك حولك دون عقول، لم تكن كاذبًا إلى الحدّ الذي مكّننا من الاستمرار هنا، كانت لديك القدرة الفائقة على شطب أثر الشبح الذي نتمسّك به، والآن نغسله بالبكاء، وقلّة التدبير'.
ويضيف الشاعر: 'يومًا ما حدّثتني يا مهنّد عن أنانيّة المتعاطف مع الفقير، وكيف أنّه يغسل عاره ببضع دراهم، وقد دار نقاش طويل، لم يكن ليتوقّف إلّا بعزمك على التواري خلف فكرة المأساة، التي كنت تلتقطها عن العالم، وها نحن اليوم، وبكلّ أنانية، نبكي عليك، لكن هذه المرّة نتعاطف مع فقرنا في استكمال الأحاديث معك، وعدم قدرتنا على إخلاء الطريق التي قفزت منها، لترتاح بعزلتك عن خرابها. أحبّك مهند يونس'.
وعيك صار أكبر من العالم كلّه
وكتب الصحافيّ مجد أبو عامر، من غزّة: 'كنت أتمنّى أن نلتقي، لكنّي لم أطلب منك ذلك. مرّة واحدة رأيتك فيها، وأنت تهمّ بالخروج من المقهى، عندها تخيّلتُ لقاءنا، بقهوته وسجائره، وفي ما سنتحدث، وأنّه يجب أن تكون ثقافتي أكبر في فنّ القصّة، حتّى أنّي حضّرتُ مجموعة ’نكات للمسلّحين’ لمازن معروف، و’معرض الجثث’ لحسن بلاسم - أحضرتهما من القاهرة - حتّى أهديك إيّاهما. أجل، كنت أرى أنّك تستحقّهما أكثر منّي، وكلّ ما أقوله حقيقة مهنّد، صدّقني.
ويضيف أبو عامر: 'أعرف أنّ وعيك صار أكبر من العالم كلّه، لهذا فعلت هذا، انتحرت، وهذا هو السبب الحقيقيّ الوحيد الذي أحسّه، فأنت لا تنتظر شيئًا من هذا العالم، لا قرّاء ولا معجبين، ولا جرعات مديح، أو إبر تسمّى جوائز. مهنّد، هل تعرف أنّ الجوائز هي من خسرتك؟ ولا تعتبر هذه العبارة فقاعة، هل تعرف أنّه سيصير جائزة للقصّة اسمها مهنّد يونس؟ وأنّ مجموعتك ستُطبع، وتترجم، وتجوب العالم الحقير، لتسخر منه، أعدك بهذا مهنّد، حتّى إن كنت لا تصدّقني، ولا تنتظر هذا'.
"عن فسحة"