لم يكن يخطر ببالي أن أكتب يوماً عن المنظمات الغربية العاملة على الساحة الفلسطينية في أي مجال من أنشطتها الإغاثية أو الصحية أو الثقافية والشبابية، ليس لعدم القناعة بجدوى ذلك، ولكن لحساسية الموضوع، والشبهات التي يطلقها البعض – جهلاً - حول هذه الهيئات الدولية، ولغياب الوعي والمعرفة بحقيقة الشعوب الغربية، والتي تعطى الكثير من الجهد والاهتمام والدعم للإعمال الإنسانية والإغاثية في بلدان العالم الثالث.
في بداية سنوات عملي الحكومي عام 2006، كنت من أكثر المدافعين عن وجود مثل هذه الهيئات والمؤسسات الدولية العاملة على الساحة الفلسطينية، وكنت أقدم الكثير من النصائح لإخواني في وزارة الداخلية بأهمية الأعباء والمهمات الإغاثية والإنسانية والأعمال التطوعية التي يقومون بها، وأن هذه الهيئات والمؤسسات الدولية هي صدى لصحوة الضمير في الغرب، وأن هذه الأعمال لها أبعاد إنسانية وقيمية، بغض النظر عما تمارسه الدول الغربية وحكوماتها من سياسات ظالمة ومنحازة بشكل سافر لدولة الاحتلال المارقة.
إن واحدة من هذه المنظمات العالمية هي "أطباء بلا حدود"، والتي تقوم بجهود على مستوى العالم لخدمة المنكوبين جراء الحروب، وخاصة في البلدان الفقيرة وفي أماكن اللجوء حول المناطق الحدودية، هرباً من القتل والإبادة.. وقد سبق لي أن شاهدت عدداً منها على الحدود الأفغانية الباكستانية، حيث يقدّمون خدماتهم الإنسانية التطوعية لتجمعات اللاجئين الأفغان هناك، والذين شرَّدتهم الحرب والنزاعات القبلية المسلحة، وكانت تلك المناطق الحدودية المهجورة هي الملاذ الآمن لهم.. ولكونها خالية من أي خدمات، كانت تلك المنظمات الدولية هي أول من يهرع لنجدتهم في تلك المناطق النائية، لمدِّ يد العون الإنساني والإغاثي لهم.
أطباء بلا حدود: بداية التعارف
بعد فوز حركة حماس في الانتخابات عام 2006، وتحركاتها لتشكيل حكومتها العاشرة، وصلنا خبراً بأن عدداً من الموظفين الأجانب العاملين في منظمة "أطباء بلا حدود" قد لجأوا إلى أحد البيوت في المنطقة الوسطى، ويطلبون الأمان للخروج من قطاع غزة، بعدما أغلقت اسرائيل حدود القطاع، بما في ذلك معبر بيت حنون (إيرز).
ذهبت أنا والنائب د. محمود الزهار بسيارته الخاصة إلى دير البلح، بهدف معرفة المشكلة، وتطمينهم بأن الحركة مستعدة لتوفير إقامة آمنة لهم لحين ترتيب أمر خروجهم، فقالوا: إنهم الآن في ضيافة أحد الشخصيات من أهل المنطقة، ولكنهم يرغبون في المساعدة لتأمين وصولهم للمعبر إذا ما تم فتحه.. كانت هذه هي المرة الأولى التي التقي أو أشاهد أحداً من هؤلاء العاملين الأجانب في قطاع غزة، وخاصة من خارج وكالة غوث وتشغيل اللاجئين(الأونروا)، وبعد ذلك تعددت اللقاءات بشكل رسمي معهم إلى حين غادرت الحكومة، ثم استمرت اللقاءات والحوارات بعد عملي في مؤسسة بيت الحكمة للدراسات والاستشارات.
لم أكن أعلم في البداية بتفاصيل ما يقومون به، بالرغم من تواجدهم في قطاع غزة منذ العام 1989، وإن كنت من خلال وجودي في الغرب أعرف الكثير عن مثل هذه الجهود التطوعية الدولية، وقد سبق لي أن شاهدت بعضاً منها في بعض الدول الإسلامية كأفغانستان، وخاصة في المناطق الحدودية، حيث تكثر أعداد اللاجئين وضحايا الحروب.
خلال سنوات عملي في الحكومة وكمدير لمؤسسة بيت الحكمة، التقيت في العديد من المرات مدراء هذه الهيئة الدولية، وأغلبهم كانوا من الفرنسيين.. لقد تبادلنا الحديث حول عملهم في قطاع غزة، والجهود التي يقومون بها خلال فترات الحرب لمعالجة ضحايا العدوان الإسرائيلي على القطاع، حيث عمل بعضهم كمتطوعين في المستشفيات المركزية، وخاصة في مستشفى الشفاء بغزة ومستشفى ناصر بخانيونس، بالتنسيق مع وزارة الصحة الفلسطينية، ولطالما جاءت أطقم طبية من أوروبا تابعة لتلك الهيئة للقيام بعمليات جراحية وتجميلية وتأهيل نفسي لضحايا تلك الحروب الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة.
بالطبع، لا تغيب أحوال السياسة وأوضاع قطاع غزة الكارثية، والتي تبعث على القلق والأسى عن جلسات الحوار بيننا وبينهم، حيث كان يهمهم معرفة الواقع ومآلات الأمور في ظل تلك الأوضاع الصعبة التي يمر بها القطاع، واستطلاع ما وصلت له لقاءات المصالحة، وجهود رأب الصدع بين فتح وحماس، والتساؤل حول فرص انفراج قريب في العلاقات مع السلطة في رام الله؟ ونحو ذلك.
إن هذه اللقاءات بقيادات هذه المنظمة كانت تشي بالكثير من الحرص والاهتمام، بهدف الاطمئنان على واقع القطاع وأهله، والذي يتعرض بين الحين والآخر - إضافة لمعاناة الحصار - لأشكال من العدوان الإسرائيلي، الذي يؤدي لتعقيد حياة الناس واستقرارهم، واستنزاف ما لديهم من قدرات التحمل والصمود.
وجاءت الفرصة: زيارة الضرورة والاحتكاك الميداني
وقع المكروه وجاءت الفرصة؛ لأن التقي بهم والتَّعرف عليهم ميدانياً، بعد أن تعرضت زوجتي لحادث عرضي تسبب في حروق بجسدها من الدرجتين الأولى والثانية، حيث تمَّ تحويلها إلى عيادة "أطباء بلا حدود" في منطقة معن القريبة من خانيونس، وهناك بدأت أدرك واتفهم حجم الجهد الإنساني النبيل الذي يقومون به، على مستوى معالجة الحروق والكسور، ثم بعد ذلك الجراحات التجميلية والعلاج الطبيعي والتأهيل النفسي، لتدارك التشوهات والمضاعفات الناجمة عن تلك الإصابات البالغة.
لقد لقيت زوجتي العلاج والمعاملة الكريمة التي تنم عن خلق وأدب هؤلاء العاملين في عيادات تلك الهيئة الدولية، وقد نقل لي أحد الأقرباء الذين تلقوا العلاج أيضاً في نفس المكان، وكانت لديهم نفس المشاهد والانطباعات؛ أي أن المعاملة لم تكن استثناءً، بل هي سجية وطبع حسن درج عليه القوم جميعاً من ناحية القيام بواجبهم تجاه أهلنا في القطاع، وهذا ما أكده لي كل من سألته عنهم أو سبق له تلقي العلاج عندهم.
أطباء بلا حدود بأقلام مؤسسيها
كان هذا الحادث الذي وقع في بيني مدخلاً لأن أبحث وأقرأ عن المنظمة، وأنشطتها الإنسانية حول العالم، وكان واضحاً مما تصفحته من الكراسات، التي حصلت عليها من مقرهم في مدينة غزة، أنها منظمة طبية دولية غير حكومية، تتألّف من أطبّاء وعاملين في القطاع الصحي، كما أنّها مفتوحة أمام كلّ المهن الأخرى التي قد تسهم في تحقيق أهدافها، ويتّفق جميع أعضائها على احترام المبادئ التالية:
إن المنظمة تقِّدم المساعدات إلى السكان المتضررين في مناطق الأزمات، وإلى ضحايا الكوارث الطبيعية والبشرية، وضحايا النزاعات المسلحة، بغضّ النظر عن الجنس أو العرق أو الدين أو العقيدة أو الانتماء السياسي.. كما أن المنظمة تلتزم بالحياد وعدم التحيّز، تطبيقاً لأخلاقيات مهنة الطب ومراعاة حقّ الجميع في الحصول على المساعدة الإنسانية، كما تطالب المنظمة بالحرية المطلقة دون قيدٍ أو شرط أثناء ممارسة مهامها.
ويلتزم أعضاء المنظمة كذلك باحترام المبادئ الأخلاقية لمهنتهم، وبالحفاظ على الاستقلالية التامّة عن جميع السلطات السياسية والاقتصادية والدينية.
ومن المعلوم أن المنظمة ومنذ العام 1980، فتحت لها مكاتب في 28 بلداً، وهي توظف اليوم أكثر من 35 ألف شخص في جميع أنحاء العالم. وقد عالجت المنظمة منذ تأسيسها أكثر من مئة مليون مريض، حيث أجرت نحو 8.6 مليون استشارة طبية خارجية خلال عام 2015 وحده، وهي تتحرك حول العالم بميزانية تصل إلى حوالي مليار دولار سنوياً.
إن المنظمة تتمتع باستقلالية تامة عن جميع الحكومات، وهي تحتفظ بحقها في التحدث علانية بشأن الأزمات المهملة وتسليط الضوء عليها، وفي تحدي أي قصور أو استغلال لنظام الإغاثة، وفي مناصرة تحسين العلاجات والبروتوكولات الطبية.
وكما أن الهيئة ترفض فكرة أن الدول المستضعفة تستحق خدمات طبية من الدرجة الثالثة، وتسعى جاهدة إلى توفير الرعاية الصحية عالية الجودة للمرضى. وفي الوقت نفسه وبالتفاني ذاته، تسعى المنظمة بصورة متواصلة إلى تحسين جودة عملها ومكاتبها حول العالم.
لقد تلقت المنظمة على مرِّ السنين العديد من الجوائز المرموقة، تقديراً لعملها الإنساني الطبي، وحازت على جائزة نوبل للسلام عام 1999، والأكثر من ذلك أن المنظمة قد نالت على ثقة واحترام الكثير من شعوب العالم وتقديرها في كل مناطق عملها، وعلى وجه الخصوص بيننا نحن هنا في قطاع غزة.
مواقف وطرائف من واقع العمل الميداني
لا يخلو أي عمل من مشاهد تخلد في الذاكرة ولا تغيب، وقد سألت أحد العاملين بتذكار بعضاً منها، فقال: ذات مرة، وقبل مغادرة الاحتلال لقطاع غزة في أغسطس 2005، كنا نحاول تقديم الدعم النفسي لشخص مصاب بالقرب من أحد المستوطنات في خانيونس، لغرض التخفيف النفسي عنه، والتقليل من مخاوفه جراء الإصابة.. وفجأة، حدث إطلاق نار كثيف، حيث شعرنا معه جميعاً بالخوف والهلع، الأمر الذي دفع ذلك الشخص للعمل على تهدئة روعنا، وأخذ يضحك من حالة القلق التي ظهرت على وجوهنا، ويدور في رأسه – والله أعلم - المثل القائل: "جيتك يا عبد المعين تعيني، لقيتك يا عبد المعين عايز تنعان"، واستمر الرجل في الضحك.. أخذنا نتفرس في وحوه بعضنا البعض، وفي لحظةٍ من التأمل، انفجرنا جميعاً بالضحك.
صحيحٌ، عند الشعور بخطر الموت "ما فيه يمَّة ارحميني".
وأضاف قائلاً: في بعض الأحيان، كنا نجد أنفسنا في أماكن حدودية بالغة الخطورة، وقريبة من مناطق المواجهات، ونضطر للهرولة والابتعاد خشية التعرض للإصابة. إذ أن الإسرائيليين عند الشعور بالخطر لا يحترمون أي جهة دولية؛ إنسانية أو غير إنسانية.
إن طبيعة عملنا- كما قال – فيها الكثير من المخاطر والمجازفات، ولكنها في الوقت نفسه فيها لذة الشعور بالإنجاز والتضحية والتفاني، من أجل إنقاذ حياة الآخرين، وهو هدف إنساني عظيم.
وأضاف: كنا في بعض الأحيان نختلف في ساحة العمل، حيث إننا جئنا من بلدان ذات ثقافات مختلفة، ولكننا سرعان ما نعتذر لبعضنا، ونتفهم طبيعة التباين في الرأي، حيث إن طبيعة عملنا طوال الوقت، وعبر تلك السنوات الأحد عشر في قطاع غزة تتطلب الانسجام والعمل الدؤوب في خدمة المواطنين، بهدف التخفيف من معاناتهم وحالاتهم النفسية، بالقدر الذي تسمح به الإمكانيات وجهود الطواقم المحلية والأجنبية العاملة معنا.
ختاماً: كلمة حق ووفاء
من بين العديد من المؤسسات والهيئات الدولية التي عملت في قطاع غزة، نلحظ أن "أطباء بلا حدود" هي ربما الأكثر حضوراً في مجال الخدمات الصحية، من حيث التفاني والعطاء، وبصماتها في معالجة الحروق وتطبيب الكسور لا تخطئها العين.
ومن باب الحديث عما شاهدناه، فالحقيقة أنه عند الاحتكاك عن قرب مع هذه الأطقم الطبية الأجنبية، وكذلك مع العاملين معهم من الأطباء والممرضين الفلسطينيين، فإنك تجد مهنية عالية ومعاملة إنسانية راقية، وقدرة على التحمل والصبر في التعاطي مع المرضى والمصابين، وكأنهم خبراء نفسيين، حيث تجد الابتسامة على وجوههم، والكلمة الطيبة على ألسنتهم، والكل يعمل بهدوء ومثابرة وتفانٍ، ربما نفتقده بهذه الكفاءة والمهنية في أماكن صحية أخرى.
في الحقيقة، كانت هذه هي بعض مشاهداتي منذ كان اللقاء الأول في عيادة الجنوب مع الشاب الخلوق الطبيب محمد عمر، ثم اللقاء الثاني مع منسق المشاريع الفرنسي باتريك مادا؛ أي المشرف الإداري العام للهيئة في القطاع، وذلك بمقر الهيئة الرئيس بحي الرمال في مدينة غزة، لاستكمال الإجابة عن بعض التساؤلات الخاصة بعدد العيادات، وتفاصيل عمل الهيئة، من حيث الأطقم العاملة من أطباء وممرضين، والذي يتجاوز عددهم الثمانين، وهم موزعون على ثلاثة عيادات في الشمال والجنوب والعيادة المركزية في مدينة غزة، ويتردد على تلك العيادات مجتمعة بين 400-500 مريض شهرياً لتلقي العلاج، وتبلغ الميزانية التشغيلية ثلاثة ملايين ونصف المليون دولار سنوياً.
لقد قدّم المدير لي نسخة من تقريره السنوي، وبعض المطبوعات التي تتعلق بأنشطة الهيئة وأماكن عملها، الممتدة على جغرافيا واسعة، وبعمر زمني مدته أربعة عقود، ويتواجد الكثير من مكاتبها وبنسبة حوالي 66% في القارة الأفريقية.. ويتم توظيف حوالي 80 % من أطقم المنظمة من الكفاءات المحلية في البلدان التي تدير فيها المنظمة برامجها.
إن من الأشياء التي لفتت نظري واسترعت انتباهي، هي توفير مواصلات لهؤلاء المرضي "ذهاب وإياب"، حيث يتم استقدامهم من أماكن سكناهم، ثم إعادتهم لبيوتهم بعد الانتهاء من تقديم العلاج لهم.
ومن الجدير ذكره، القول بأن هؤلاء العاملين في هذه الهيئة من أطباء وممرضين هم عبارة عن مجموعة من الموظفين المخلصين، الذي تمرسوا على استيعاب جراحات الناس وأوجاعهم، وكان التعامل الإنساني والسلوك الحميد هو العنوان الأبرز لهذه المنظمة العالمية، المتواجدة بأطقمها الناشطة في قطاع غزة.
ولعل هذه المشاهد الراقية في التعامل مع المرضى، وأسلوب تقديم الخدمة لهم، هي التي شدتني - بهذا الشغف والحماس - للكتابة عن هذه الهيئة العالمية العاملة في قطاع غزة.. إنها محاولة منَّا للإنصاف والوفاء للقائمين عليها، حيث قدَّمت لأبناء شعبنا الكثير من العطاء، وكان التفاني حقيقة بلا حدود.