كتبت بديعة زيدان:
"ولدت في مخيم اليرموك.. والدتي سورية من درعا البلد، ووالدي فلسطيني من قطاع غزة.. علاقتي مع الأدب بدأت تلقائية كون والدي يكتب الشعر، وهو صحافي أيضاً، وعمي صحافي وكاتب وروائي، لكني قتلتهما أدبياً منذ زمن.. علاقتي مع والدي راسم وعمي ربعي علاقة صداقة، أختلف معهم أدبياً بشكل كبير، حتى إن ميولي وقراءاتي بعيداً عن ميولهم وقراءاتهم تماماً، لكنني أحبهما كصديقين، واستمتعت بهما كنديمين جيدين .. أكثر ما يعجبني بهما، وأعتقد أنني ورثت هذا الأمر عنهما، هو أنهما أحرار فكرياً، ولا يمكن أن يتأثرا بأحد، أو يؤثر عليهما أحد".. بهذه العبارات بدأ الشاعر الفلسطيني المقيم في السويد غياث المدهون الحديث عن نفسه لـ"أيام الثقافة".
وانتقل المدهون مباشرة، وبتلقائية أقرب إلى العشوائية، للحديث عن إقامته في السويد، بقوله: انتقلت إلى السويد في العام 2008، بعد أن طلبت اللجوء السياسي، وكان أول قرار لي هناك ألا أعمل إلا في الشعر، وبالفعل أنا لا أقوم بأي شيء إلا كتابة الشعر منذ ذلك الوقت.
وبالعودة إلى النص الأول، قال: أشعر بأنني لا أتذكر، كأنه يوجد منطقة غباش بالذاكرة .. لربما بدأ الأمر يتخذ شكلاً من الجديّة بالنسبة لي في فترة المراهقة، وما جعلني أعتقد ذلك هو شعوري بأن هناك من بات يتذوق ما أكتب ويحب نصوصي، وهناك من يعاديها .. النص يتحول إلى نص حقيقي حين يبدأ في فرز أصدقاء وأعداء، حيث تكتشف بعد حين، أن هناك من يحبك وهناك من يكرهك بسبب كتاباتك ونصوصك، وبعدها تشعر بأن هناك من يطالبك بالكتابة .. وقتها تصبح الأمور جدية، وبعيدة عن المزاح، وتشعر بأنك تورطت في الكتابة، لكنها ورطة ممتعة بالنسبة لي .. "أنا أستمتع بالكتابة".
وأكد المدهون أن من يتربى داخل أسرة بعيدة عن الأدب هو "الأهم" على مستوى الإبداع، فهو القادر على تقديم ما هو حقيقي بشكل أكبر، ولكن هذا لا يمنع أن هناك من استطاع النجاة بـ"قتل الأب أدبياً".. "صحيح أن هذا الأب يفتح لك المجال رحباً، ويعرّفك على أصدقاء من الكتاب والمبدعين، وتجد نفسك داخل الوسط أو الجو باللهجة الدارجة دون عناء، وهذا قد يتسبب في ترهل الأدب".
وأضاف: الحقيقيون برأيي هم من خرجوا للكتابة دون التعرف على ماهية الأشياء، ودون أن يدركوا ما الذي يقومون به، فمن ولدوا في أسرة من الفنانين التشكيليين، وباتوا تشكيليين بدورهم، لا يمكن المراهنة عليهم إلا في حالات نادرة".
الهروب من سورية
وغياث المدهون الذي درس الأدب العربي في جامعة دمشق، لفت إلى أنه هرب في العام 2008 من سورية. في دردشة قررت أن أتركها مبعثرة كما أرادها صاحبها، وكأنه يعتمد صيغة "الفلاش باك"، ولكن ليس في نص روائي أو شعري، بل في حوار بغرض إعداد "بروفايل" عنه.
"الحكاية بدأت حين وجهت لي دعوة إلى السويد، ولكني لم أكن أملك كبقية الغزيين جواز سفر، فأهل غزة في سورية هم من فئة الـ"بدون"، وأعني من قدم إلى سورية بعد تسلم حزب البعث الحكم، فالفلسطينيون الذين لجؤوا إلى بيروت في العام 1948، ولم يكن الحكم وقتها بطبيعة الحال لحزب البعث أخذوا حقوقهم كاملة.. في العام 1963 استلم حزب البعث مقاليد الحزب، وبدأ حافظ الأسد يظهر بحضور طاغ داخل الحزب وفي المخابرات .. في العام 1967 احتلت غزة، وكانت هناك موجة رحيل جديدة إلى سورية، ولكن حافظ الأسد رفض منحهم حقوقاً كسابقيهم.
وأضاف: والدي دخل إلى سورية بعد أحداث أيلول الأسود، وكان حافظ الأسد رئيساً منذ شهر تقريباً، ورفض منحنا كغيرنا بطاقة هوية، أو السماح لنا باستصدار رخصة قيادة، أو تملك منزل، أو حتى أن نعمل .. والدي إلى اليوم ممنوع من العمل، ولا نملك أوراقاً لإثبات شخصيتنا .. استطعت استصدار جواز سفر فلسطيني، ووصلني بطريقة ما إلى سورية، وحصلت إثر ذلك على الفيزا السويدية .. هنا جاءت مشكلة كيفية مغادرتي بجواز سفر لا تعترف به السلطات في سورية، وجواز "السلطة" كما يسمونه ممنوع في سورية، وربما "أعدم" لو ألقي القبض عليّ متلبساً فيه بحوزتي، فسورية أغلقت مكاتب منظمة التحرير في العام 1983، وأعدمت من أعدمت، والبقية "طالهم العفن في السجون السورية".
وتابع الحكاية: اضطررت لدفع رشى لمغادرة سورية، والحمد لله أنها بلد فاسد، وإلا لما تمكنت من مغادرتها.. وقال مداعباً، وربما في مداعبته شيء أو أكثر من الحقيقة: "كل المطار كان معاه مصاري .. كل سورية كانت ماخدة رشوة".
ولفت المدهون إلى أن الطائرة التي أقلته من دمشق كانت تقل الشاعر خالد الناصري أيضاً، في الثاني من أيلول 2008 إلى السويد، للمشاركة في مهرجان شعري هناك كانت أشعارنا قد سبقتنا إليه مترجمة بالسويدية .. هناك طلبت اللجوء السياسي، وكنت أخبرت المهرجان بذلك، فأشاروا إلى أنه لا علاقة لهم بالأمر.. مرّ عامان ونصف العام حتى حصلت على حق اللجوء السياسي في السويد.
في السويد
وأكد المدهون أنه من الناحية الكتابية أو الإبداعية لم يتغير عليه شيء. كما قال لـ"أيام الثقافة": "ما تغير عليّ الشللية .. كنت أعاني في سورية من الشللية، أما في السويد فلا شلليات ولا محسوبيات .. في سورية كان الحزب والأمن وبعض الأحزاب توفر لكتاب أو شعراء مساحات أو منصات للانطلاق عربياً ودولياً عبر المشاركة من خلالهم في المهرجانات والفعاليات الأدبية والثقافية، أما في السويد فنصّك وما تكتب هو المعيار الوحيد لتفوقك".
وأضاف: شاءت الظروف بعد سنوات من وجودي في السويد، أن تندلع ثورة في سورية، وهاجر العديد من الكتاب السوريين أو المقيمين في سورية إلى السويد وغيرها من دول أوروبا، وكثير من أصحاب المحسوبيات السابقين سقطوا في هذه المرحلة.. "حينما تغيب المحسوبية والشللية ستكتشفين أن ما نسبته 90% من الكتاب والأدباء في البلاد التي تحكمها الدكتاتوريات سيسقطون، حيث كان مدراء التحرير في المجلات الثقافية والفنية والأدبية، والمحررون المسؤولون، والقائمون على الترشيح للمهرجانات متعاونون مع الجهات الأمنية في سورية، ولو لم يكن كذلك فإنه لن يكون مدير تحرير أو مسؤولاً عن مجلة ثقافية.. في أوروبا عامة، والسويد خاصة، كل ما كان يحكم دائرة الأدب في سورية والدول الدكتاتورية يسقط، فالعديد من الأسماء اللامعة برز أنها ليست إلا حثالات أدبية متعاونة مع الأمن ونظام الحكم الدكتاتوري".. "الحرية هي المنبع الوحيد للأدب.. لا يمكن أن يكون هناك أدب حقيقي تحت الضغط بكل أشكاله، إلا إذا كان أصحابه أحراراً من دواخلهم كما بعض النماذج في الاتحاد السوفياتي، ورومانيا الاشتراكية، وليبيا القذافي، وغيرها".
وشدد المدهون: لم تختلف كتاباتي في السويد عنها في سورية، لكن ما اختلف هو وصولي إلى القراء، ففي سورية لم يكن ينشر لي كما كان في السويد.. هنا أتحدث عن الفكرة العامة، فسورية كانت تنتج أدباً في فترة حكم البعث، ومنه أدب أصيل وحقيقي على مستوى الشعر والسرد، لكن الجو العام لم يكن صحياً، وهذا يؤثر على ضعاف النفوس.
قاطعته: "وغير ضعاف النفوس بدهم يروحوا في داهية" .. فأجاب: راح الكثير منهم في "داهية" .. الكثير من كتاب سورية كانوا يختفون واحداً تلو الآخر.
الديوان المأساوي
وكشف المدهون عن أنه يعمل على إصدار ديوانه الرابع.. وتوقع أن يكون "مأساوياً"، على حد وصفه، قبل أن يضيف: هو حزين .. لا بل مأساوي .. في معرض عمّان الدولي للكتاب قرأت قصيدة عن ألماس الدم، وترجمت إلى العديد من اللغات .. كنت في بلجيكا، وكنت أتابع خط الهجرة، حيث قتلت بلجيكا 15 مليوناً من سكان الكونغو، بعد أن قطعت أيديهم .. لم أستطع استيعاب الفكرة، خاصة أن "المقتلة" السورية الآن فتحت الكثير من التساؤلات أمامي: كيف يعيش هؤلاء الملايين خمسة سنوات تحت القصف، والعالم بدوره يؤيد الدكتاتور، حتى في فلسطين اكتشفت أن هناك من يؤيد بشار الأسد.
وأضاف: حين قامت قوات نظام الأسد بقصف أحياء مدنية بالكيماوي، وذهب ضحايا هذا القصف أصدقاء لي، بدأت أبحث عن تاريخ "الكيماوي"، والذي استخدم في الحروب العام 1915 بمدينة "إيفرن" على الحدود البلجيكية الفرنسية في الحرب العالمية الأولى، وبالتحديد في 22 نيسان من ذلك العام .. وفي 22 نيسان 2015، أي في الذكرى المئوية لهذا الحدث الأليم توجهت إلى تلك المدينة الحدودية، ومكثت أسبوعين فيها، زرعت خلالهما 170 مقبرة، ومررت عما يزيد على 600 ألف قبر، وكتبت على إثرها قصيدة "شيزوفرينيا" التي تتحدث عن إيفرن ودمشق وفلسطين وأستوكهولم .. إيفرن التاريخ، ودمشق الحاضر، وأستوكهولم الواقع الذي أعيشه، وفلسطين الذاكرة الموروثة، وهي قصيدة في ثلاثة آلاف كلمة وترجمت إلى سبع لغات.
وانتهيت كذلك، والحديث للمدهون، من قصيدة "الحليب الأسود"، وتتحدث عن الشاعر باول سيلان أو تسيلان، وكيف كانوا يشربون الحليب الأسود في "أوشفيتز"، ومع أنه نجا من المحرقة، هذا الشاعر الذي هو من أكثر الشعراء الذي تأثرت بهم، إلا أنه لم يتحمل تراكمات ما حدث معه، وانتحر في العام 1970.
وأكد المدهون: نحن الآن من ورثنا الحليب الأسود، وبتنا نشربه .. السوريون يشربون الحليب الأسود، ليس لأن مليوني سوري أو يزيد قتلوا، بل لأننا كشعوب مضطهدة نؤيد قاتلهم، وهذا شاهدته بأم عيني في فلسطين وغيرها، بل إن اليسار بات يؤيد القاتل .. صرت أخجل أني يساري.. "داعش" لم تقتل إلا النزر اليسير من السوريين مقارنة بما قتله نظام الأسد، وكلاهما سيئ .. شقيقي قتل قبل أشهر.. وهذا كله فتح أمامي أسئلة تحولت إلى نصوص لا يشبهها باعتقادي أي نصوص لا في الغرب ولا عند الشعراء العرب، كونه يأتي نتيجة حالة انفصام لما رأيت وعايشت، وهي أشبه بحالة الضياع التي عاشها الأوروبيون ما بعد الحرب العالمية الثانية وبالتحديد ما بين العامين 1945 و1955، بعد سقوط 60 مليون ضحية دون مبرر.. "ديواني سيكون مختلفاً، ولا أدري كيف سيتقبله القارئ العربي".
المبدع في الغرب
ولا يرى المدهون أن هناك فرقاً بين من يقيم في الغرب لاجئاً، أو للعمل، أو حتى المقيمين، أو غير ذلك، فهو يعاني لكونه يعيش عالماً موازياً .. في السويد يسمونني الشاعر الفلسطيني السوري، وفي فلسطين كانوا يصفونني من قبل بالسويدي السوري، وفي سورية الفلسطيني السويدي، وكأن لا أحد منهم يريدك.. "كل واحد بيزتك ع التانيين"، ولمرة واحدة قامت مذيعة سويدية متخصصة وشهيرة بوصفي بالشاعر الفلسطيني السويدي السوري، وكنت سعيداً جداً وقتها، فأنا لم أكن يوماً منحازاً لثقافة بعينها، بل إن وقوفي وتأييدي للقضية الفلسطينية بسبب عدالتها، قبل أن يكون لسبب كوني فلسطينياً .. "متأكد، لو أنني ولدت في عائلة يهودية أرثوذوكسية لأيدت عدالة القضية الفلسطينية دون أن يرف لي جفن".
الرواية
ولا ينكر المدهون أنه يفكر بكتابة الرواية ذات يوم، لكنه يرى أنه أمر "مرعب"، لكون "العمل الروائي يحتاج لخطة مدروسة، وساعات للكتابة، على عكس القصيدة التي قد تكتب في المقهى".. "أحب الشعر، وأرى أنني جزء منه كما هو جزء مني .. قد يكون ذلك في المستقبل، لكنه ليس أولوية بالنسبة لي بتاتاً .. أنا كائن شعري بالأساس، ولا أعول كثيراً على الرواية العربية مع بعض النماذج المشرقة هنا وهناك .. قد يعول عليها بعد خمسين عاماً كـ"صناعة رواية" كما يحدث في الغرب .. نحن لدينا "روايات"، وليس "صناعة روايات" .. أما بالنسبة للشعر، فخاطئ من يعتقد أننا في زمن الانحطاط .. على العكس نحن في العصر الذهبي بالمقارنة بما يكتب ويقرأ في الولايات المتحدة وأوروبا .. وضع الشعر العربي سيئ مقارنة بأزمنة سابقة، قد يكون ذلك، لكن بمقارنة بشعوب العالم نحن نقدم الأفضل الآن".
وأختم بما قاله لي أصدقاء عن حادثة حصلت مع المدهون في أحد مطاعم برلين، حين استوقفه أثيوبي مقيم في أوغندا، قادم لألمانيا لحضور حفل زفاف، وسأله إن كان هو "غياث"، وحين أجاب بالإيجاب، قرأ ليس شيئاً من قصيدة للمدهون بالإنكليزية أرسلها له صديق من كندا .. يبدو أن الأمر فيه شيء من الـ"شيزوفرينيا"، لكنه حقيقي، كما أن ما ورد في قصيدة "شيزوفرينيا" للمدهون يبدو غريباً كحادثة المطعم، لكنه حقيقي أيضاً.