لم أكن أرغب في الحديث عن دحلان ومبادرته لأسباب لا تخفى على أحد، لكن وسائل الإعلام التي تناولت المبادرة بتغطيات واسعة أثارت فضولي للنظر في فحواها، والتملي في مضامينها، كما أني وجدت الكثير من الشخصيات الوطنية وأصحاب الأقلام قد تناولوها وأشادوا بالكثير مما ورد فيها.
ومع إصرار أكثر من جهة إعلامية لدفعي للحديث عن المبادرة وإبداء رأيي فيها، قررت المرور عليها، والاستماع للنائب محمد دحلان وهو يلقيها على الطريقة الأمريكية، حيث تقرأ عن شاشة مخفية، لتجنب الزلل في اللغة والمضمون، وهذا ما أبدع فيه الرجل، الذي قد نختلف معه في الكثير من المحطات، ولكنه للأمانة قدَّم رؤية بنقاط وطنية حظت بالإجماع، ويمكن إذا ما تم توسعتها والتشاور حولها مع باقي الفصائل الفلسطينية أن تشكل ما يسمى بالعقد الاجتماعي، الذي يمهد الطريق أمام توافقات فلسطينية وطنية تخرجنا من مأزق الانقسام وتداعياته الكارثية، وتشكل مع مبادرة الأخ رمضان شلح فرصة لاجتماع الصف الفلسطيني، والذي شرذمته طريقة التعامل الاستعلائية التي يتبناها الرئيس أبو مازن في التعامل مع الكل الوطني، وأعجزته عن الوصول لوحد رؤية أو حالة إجماع تعزز من مشروعنا الوطني، الذي تآكلت أهدافة، وتقزمت ملامحه، وضاعت معالمه.
الحقيقة أن المبادرة تستجيب للكثير من مطالب فصائل الوطني والإسلامي، وفيها لغة تجمع ولا تفرق، ويبدو فيها دحلان متحدثاً بلغة القائد الذي ينشد الشراكة السياسية مع الآخر على قاعدة من التوافق الوطني، وراعي في خطته للإنقاذ الوطني كل تحفظات القوى الوطنية والإسلامية فيما يتعلق برفض التنسيق الأمني، وضرورة العمل على تفعيل المجلس التشريعي، وإعطاء الأولوية للقدس التي تتعرض لعمليات تهويد ممنهج، وأهمية التحرك لإعادة بناء منظمة التحرير، وسرعة إنهاء الانقسام، والتأكيد على عقد المجلس الوطني وفق رؤية تعطي لكل من حماس والجهاد الإسلامي نصيبهما المستحق كقوى فاعلة في الساحة النضالية، كما أنه طالب بوقف تغول الرئاسة وتفردها في القرارات.
لا شك أن دحلان في خطابه يبدو شخصية وحدوية، وأقرب في مبادرته إلى ما تطرحه الفصائل وخاصة الإسلامية منها.
وكما سبق أن قلنا إن السياسة ليست منظومة قيمية أو مجموعة من المبادئ المثالية لنحتكم إليها، ولكنها مصالح تحدد اتجاهات التحرك بما يخدم مرحلة ما من العمل، والكل يوظف ما بيده من أوراق ونباهة سياسية لتحقيق مكاسب أكبر، وهي أشبه بلعبة الشطرنج، حيث يفوز فيها صاحب الخبرة والذكاء، وليس لعبة حظ مثل "السيجة"، التي لا تتطلب جهداً وإعمال عقل.
أعتقد أن دحلان رجل ذكي، ولديه مطبخ سياسي يفكر له، كما أنه بارع في فن المناورة، ولكنه في الوقت نفسه رجل له تاريخ معروف، وقد تعامل الجميع معه في سنوات ومراحل مختلفة، وكل من تعاملوا معه يعرفونه جيداً، ويمكنهم اللعب معه بأريحية وعلى المكشوف أكثر من الرئيس أبو مازن، والذي – للأسف - لا يعرف أقرب الناس إليه في اللجنة المركزية لحركة فتح أو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ما الذي يخطط له أو ما هي مفاجأته القادمة.
باختصار: مبادرة دحلان فيها الكثير مما يمكن أن تتوافق عليه الفصائل، ولذا يجب أخذها بعين الاعتبار، واستثمارها لتحريك المياه الراكدة في ساحتنا الفلسطينية.