"يا رايحين على حلب حبي معاكم راح". وكان هذا هو مطلع الأغنية منذ ذاك الزمن في باكورة العمر لمدينة أشبه ما تكون بالمدن المسحورة في القصص القديمة، وقد كانت رمزاً في مكان قصيّ لا يصله الأشرار، يرفل بالمسرة والجمال، حتى أنه لا يزال يقال إنه حلبي أي كناية عن الحسن والجمال، وفي بعض اللهجات تقلب الحاء تنطق هكذا شلبي او جلبي، والحلا بلا منازع حلبجي أي أصله من حلب.
وهذا هو أيضاً وتالياً أصل القدود في الأغاني والألحان وموطنها ومدرستها، ويقال القدود الحلبية كأنها مدينة خلقت للحلا والفن والفرح والجمال، حتى وان بدت قلعتها التاريخية شاهدة على ماضي يشي بتقلبات الأزمان او العصور والأيام، الا ان إشعار سيف الدولة أبي فراس الحمداني في الحب والعشق واللوعة حتى في الأسر، وأسواقها القديمة التي ما زالت تمثل تحفة الزمان. إنما هي التي تمسح على صورة المدينة أيقونتها الخالدة لمدينة لم تخلق للحرب والسيف ولكن للحب والفن.
ويروى فيما يروى عن كبير موسيقيي عصرنا الراحل محمد عبد الوهاب أبي التعبيرية في الموسيقى العربية، واهم المجددين في الأغنية العربية الحديثة، انه عندما ذهب الى حلب في مقتبل مسيرته الفنية سعياً وراء اكتساب شهرتها، فإنه صدم عندما توجه للغناء في القاعة في تلك الليلة الأولى، ليكتشف أن القاعة فارغة الا من نحو بضعة أشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليد. لكنه استمر بالغناء ليكتشف في اليوم التالي مذهولاً وقد امتلأت القاعة عن آخرها. إن أولئك الأشخاص الذين حضروا في اليوم الأول إنما هم المحكّمين الذواقين الممثلين عن الجمهور، ليحكموا ان كان هذا المغني يستحق سماعهم له وتكليف انفسهم الحضور. والمعنى ان تراثاً من الذائقة الفنية كان جزءاً أصيلا ومتوارثاً، يضفي على حاسة شعب نوعاً من الرقي المعرفي والرفعة، بحيث تنتفي او تمحى الحدود الفاصلة بين ما هو رفيع ونخبوي وما هو شعبي اكثر تواضعاً.
إنها هنا ربما تحاكي المدن الثانية إسكندرية مصر مقابل القاهرة، ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، التي خلد ذكرياتها وجزء من سيرتها لورانس داريل الاديب الايرلندي في روايته الأكثر شهرة في الأدب العالمي "رباعيات الإسكندرية". ومن عباءة هذه الرواية لا أديب عربياً في غضون السبعين عاماً الماضية لم يتأثر بها، بما في ذلك نجيب محفوظ نفسه في ثلاثيته الشهيرة. الإسكندرية الكوزموبولوتية المطلة على البحر مثلما يافا في ذات الزمان في علاقتها بالقدس، وكذا الموصل مع بغداد في العراق.
لا تشبه المدن عند نهاياتها مآسيها وهرمها كما البشر، فتنتها الأولى وعذرية بكارتها صباها وشبابها. وهكذا فلن يبقى من الإسكندرية وطرازها المعماري الأول الذي هو صورة عن ثقافتها الإغريقية، غير الأغنية التي تتغنى بشاطئها وبحرها، الأغنية التي رددها سيد درويش قبل مائة عام ولا تزال ترددها السيدة فيروز.
واشتكى الأديب الراحل يوسف إدريس قبل سنوات طويلة كيف انه لم يبق من هذه الإسكندرية غير كورنيشها، يلجأ اليه في فصل الشتاء بعيدا عن زحام الصيف ليتمشى عليه ويكون ملهمه الوحيد في حل ما يستعصي على خياله في القاهرة.
ولنا ان نسأل كيف إذن انتهى قدر مدينة ثانية هي الموصل، والتي استمدت من اسمها وموقعها الجغرافي دورها كصلة الوصل بين حضارات وامبراطوريات قديمة، حتى جمعت في ديموغرافيتها هذا التآلف والتنوع العرقي والثقافي الفريد، عرباً وكرداً وأتراكاً وآشوريين مسيحيين ومسلمين، ان ينتهي المطاف بها الى ان تتحول الى العاصمة او المعقل الرئيسي لتنظيم الدولة الإسلامية او داعش. كما سوف تتحول هي الأخرى أي حلب الى معقل لتنظيم جبهة النصرة أي القاعدة وكل هذا التعدد من المجموعات الأيديولوجية المتطرفة؟.
ان الاقدار وحدها هي من تقرر أسلوب وشكل الطريقة التي تنتهي بها هذه المدن الى دمارها او خرابها الذاتي، التي يقودها سوء طالعها الى هذا المصير. ويقال مجازاً انقلابها او خرابها على عروشها، فهل سقطت المدينة أخيراً ام ان ما جرى هو تحريرها من جانب المنتصر؟ والمنتصرون هنا كثر حتى بالكاد لا نستطيع ان نميز بين ترتيبهم في هذا المقام، أهي روسيا أولاً أم إيران ام الرئيس السوري بشار الأسد ام حزب الله؟ ولكن أي فارق بين ان تكون المدينة سقطت في صراع ينطوي على البطولة او الشجاعة اليائسة، وبين ان تكون المدينة قد تم تحريرها وتخليصها من سطوة هؤلاء العصاة، وهكذا استعادة المدينة الى حضن الدولة.
ان من لم ير مشهد هزيمة وتقهقر الجيوش في ميادين القتال، لن يعرف معنى الحرب. كتب كلاوزفيتز قبل اكثر من مئتي عام وقد تبدو اليوم من منظار تسلح الجيوش بالتقنية الحديثة، الحروب النابليونية مزحة أطفال قياساً بوسائل التدمير التي تملكها الجيوش في حرب المدن الحديثة. ولقد شهدنا وتعلمنا على جلدنا هنا في هذه المدينة غزة في غضون ثلاث حروب متواصلة، هي الأخرى عبثية ودموية وغبية في معنى وكنه هذه المشاعر الإنسانية من الخوف والألم، الى حد اليأٍس تحت القصف الذي يحيل كل شيء الى دمار، البشر والحجر والشجر. وهي وحدها التجربة الأكثر هولا وإحباطا والتي تحيلنا الى طرح السؤال الحقيقي البدائي والطفولي، سؤال البشر الأكثر سذاجةً ليس عن معنى وكنه الحرب منذ فجر التاريخ إلى اليوم، ولكن عن الدافع في كل مرة الى ذهاب الناس إلى هذه الحرب؟ وإذا ما كان ثمة أي مبرر او غاية مهما كانت تبرر هذا القتل المتواصل، الإنسان لأخيه الإنسان؟.
وقد نصف نحن الشعوب الأكثر تمدناً حروب اليوم تحت وطأة هذه الأسلحة الخرافية الأكثر فتكا ووحشية على أنها بقايا فظاعات تنتمي الى العصور البربرية. لاحظوا كيف يفرحون في إسرائيل بالطائرة الشبح اف35؟ ولكن ما الذي كان يملكه حقا القدماء من مثل هذه الأسلحة، الطائرات او المدافع أو الدبابات؟.
حتى ان ابن خلدون في مقدمته الرائعة فند المبالغات او لعلها الخرافات والترهات عن الأعداد غير الواقعية والخيالية لأعداد القتلى بعشرات الآلاف في هذه الحروب القديمة، وحيث لم تكن جيوش ذاك الزمان تتوفر على أسلحة تتجاوز السيوف والأقواس والرماح. جيوش هذه الأزمان هي جيوش البرابرة القادمين، هذه الأزمان البربرية ليست أسلوبا في القتل، ولكنها قبل كل شيء أسلوب وطريقة في التفكير.
بعد الحربين العالميتين في أوروبا تحدثوا عن سقوط الحضارة، لكننا نعرف ان الحضارة لم تسقط في غضون السبعين عاما الماضية، وإنما توشك قلاعها وحصونها على الانهيار مجددا كما بعيد الحرب الأولى، بفعل معاول الأيديولوجيين المتطرفين الذين يلوحون بخطر "الإسلاموفوبيا" نفسه الذي وقف وقفته الأخيرة في حلب قبل سقوطها، وفي الموصل لا زال يستعصي على السقوط.
ومفارقة المفارقات هنا والعجب العجاب أنهم انفسهم ممثلو الحضارة من يذرفون دموع التماسيح على ما حدث في حلب، ونحن نذرف هذا الدمع. وهم من دبروا الفتنة واستدرجوا أهل حلب بل الدولة السورية بأكملها الى هذا المصير الشيطاني، هم انفسهم لو تذكروا من كانوا يسمون انفسهم أصدقاء الشعب السوري؟ وقلنا هنا في حينه ان اسم العملية هي قتل الدولة السورية. ولا زالت العملية متواصلة قبل حلب وبعدها.
ولعل الأمل والرهان الوحيد بصيص النور في نهاية هذا النفق لوقف هذه الحرب العبثية ما بعد ذروتها المأساوية في حلب، هو نشوء هذا التوازن الجديد. والذي يمكن أن يفضي الى توافق بين روسيا وتركيا وإيران لإنهاء هذه الحرب العبثية.