كصحفي ، تعامل و لم يزل مع الصحافة الأجنبية ، كلن لزاماً علي ، أن أتابع الشأن السوري ، و تطورات المشهد الحلبي .. و بمقتضيات عملي الذي أؤجر عليه كمستشار للتحرير لشئون الشرق الأوسط في إحدى الصحف الأجنبية ، كان وما زال علي أن أقدم رؤيتي القائمة على المتابعة و تجميع كل ما يمكن من أخبار و مقالات ، بل و تفاعل و آراء و تغريدات على شبكات التواصل الإجتماعي ، و أن أقوم بكتابة " خلاصة" محايدة ، و ليس من شاني بعد ذلك أن أتدخل أو حتى أعرف ، إن كانت الصحيفة ستأخذ " بخلاصتي " تلك ، أو تلونها بأي لون من ألوان طيفها ، ولكن هم يشترطون أن يكون تقريري و خلاصتي مهنية بقدر المستطاع ، و حيادية بقدر الممكن .
الحقيقة كان من الصعب على فلسطيني أن يتجرد من كل الأوجاع التاريخية المزمنة التي سببها نظام الحكم في سورية للقضية الفلسطينية ، و من غير المنطقي أن أتجاهل كعربي الإحباطات التي أصابتني بسبب تخاذل و تقاعس هذا النظام في المواجهات و إكتفائه بترديد جملة تعودت على سماعها منذ نعومة أظفاري و حتى قبيل قيام الزوبعة ، و الإعصار الكونداليزي في المنطقة العربية ، جملة : لن ننجر إلى مواجهة غير محسوبة ، و سنرد في المكان و الزمان المناسبين ..
أقول أن كل هذه الخلفية عندي ، كفلسطيني و كعربي و كإنسان موجودة ، و لكن طبيعة العمل تقتضي أن تخلع نعليك و أنت في الوادي المقدس ، و أن تتطهر ما أمكن من كل رواسب ، و أدران النزعات الشخصية ، أو العرقية أو حتى الدينية ، و أن تحاول أن ترى و تحلل كإنسان ، مطلق ، متجرد ، وفق مقاييس غاية في الدقة و العقلانية ، هذه العقلانية و هذا التجرد أيضاً ، يحتم عليَّ أن لا يكون لي حكم مسبق ، و أن أنسى ما أعرفه ، عن المعارضة ، عفواً ، أقصد المعارضات السورية ، بكل توجهاتها و أشكالها و أنواعها ، و أن أتغاضى عن الكم الهائل من المعلومات التي أوردتها وسائل إعلام إسرائيلية ، و أمريكية و فرنسية و بريطانية ، و غيرها ، بكل وضوح و شفافية ، أو ربما بكل دس و تآمرية ، عن روابط إستراتيجية تجمع بين " بعض " الفرق المعارضة و إسرائيل ، و عن الدعم الإستخباري و اللوجيستي المتواصل ل " بعض " فرق و تنظيمات المعارضة السورية أو ما يطلق عليها إسم " الثورة ، و الثوار" وعن إتصال البعض الآخر بحلف الناتو ، أو مباشرة بأمريكا و أوروبا وأجهزة مخابراتها ..
ثم وجدت نفسي أمام عدة مفارق طرق، كلها تؤدي إلى حلب .. مفرق طريق يتحدث عن معارضة التدخل الإيراني في الشأن السوري ، و أن معركة حلب هي معركة هيمنة طهران على سورية ، و مفرق آخر يتحدث عن روسيا و سيطرتها على سورية لحماية نظام الأسد العلوي الخادم لمصالحها في الشرق الأوسط ، و مفرق ثالث يتحدث عن محور إسرائيلي روسي كردي ، و رابع يتحدث عن توافق تركي إسرائيلي أمريكي ، و خامس و سادس و سابع ..
ووسط كل هذا ، تابعت بإهتمام ، إنعكاس المشهد على المواطن العربي ، بكافة تصنيفاته ، من مثقف يقبض ثمن تسخير ثقافته ، و مثقف برئ ، و مشتغل بإعلام معارض ، و إعلام قريب من إيران ، و إعلام قريب من الإخوان ، و إعلام برائحة البترول و الغاز ، ناهيك عن بؤرة الرأي و الرأي لآخر ، القابعة بين قاعدتي السيلية و العيديد .
تسونامي من الأخبار و التلفيقات ، على الشاشات ، و عبر رسائل المحمول ، و على الفيس بوك ،إنستاجرام ، تويتر جيش من الممثلين و الناطقين باللغات الأجنبية ، بكاء و تباكي .. مسرحيات و فرق هوليوودية، و جهد واضح لأساتذة في التزييف و المونتاج ..
و أعود مرة ثانية لأرى المواطن العربي " العادي " مخدوع ، منبهر ، غارق حتى أذنية ، في بحر من الإعلام الموجه و العاتي .. و لكن تبقى الصورة النهائية ، برغم كل الملايين التي أُنفقت على جحافل الممثلين و الصحفيين و التقارير و الأفلام .. ( هنيئأً لهم ، فقد كانت صفقة رابحة مادياً اللهم لا حسد !! ) .. إلا أن المشهد النهائي هو :
الجيش العربي السوري دخل إلى حلب ، و طرد منها كل مقاتلي داعش و النصرة ، و مليشيات الناتو وجواسيس الأمريكان. ..