أطلس للدراسات
مقدمة د. خضر محجز
الحمد لله، والصلاة على رسول الله، وآله ومن والاه. أما بعد،
فهذا نقاش يثري العقل، ويفتح آفاق المراجعة الموزونة الحرة، لبعض مما وصلنا من المرويات، التي قيل إن صحتها لا تتعرض للتشكيك، لمجرد أنها رويت في الصحيحين أو أحدهما.
والحق أن الأفكار هي غير الأشياء، فما أفكر فيه في صحيح البخاري، ليس هو صحيح البخاري. لكن هناك من يحاولون دائمًا جعل الأفكار هي الأشياء التي فكرت فيها الأفكار، فيقدسون صحيح البخاري باعتباره كائنًا مجردًا، كائنًا سماويًا، لا مجرد كتاب مطبوع على ورق وألفه رجل في القرن الثالث الهجري!
الصحيحان كتابان صحيحان بمفهوم الغالب، لا بمفهوم الإطلاق الحصري الذي يمنع انتقاد بعض ما ورد فيهما لمجرد أنه ورد فيهما، ولمجرد أن العلماء القدماء قد قالوا بأنهما صحيحان، لأننا نعلم أن من وصفوهما بهذا الوصف قديمًا، هم أنفسهم، لم يمتنعوا عن انتقاد بعض ما ورد فيهما. والحق أنه قد هلك في الصحيحين فريقان: فريق ينكر صحتهما بالإطلاق، وآخر يمنع نقد أيّ مما ورد فيهما بالإطلاق.
هذا البحث يتطرق إلى مسألة محددة: ما روي في الصحيحين من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بصيام عاشوراء، فيقيم الدليل الرياضي على استحالة ذلك من جانبين: استحالة أن يكون الرسول قد أمر بذلك حقًا، واستحالة أن يكون المسلمون قد أمكنهم أن يصوموا عاشوراء، قبل العام الثالث والستين للهجرة.
والحق أننا لو قبلنا باستبعاد العقل، لكان علينا أن نقر بأن ديننا غير منطقي، يعتمد أحيانًا على نقول شفوية يحيل العقل صحتها، ويحيل علم مصطلح الحديث صحتها كذلك. فلطالما قرر علماء الحديث - وهم نقليون بامتياز - بأن الحديث الشاذ أو المعلول مردود، حتى لو صح سنده. وحديث الأمر بصيام عاشوراء شاذ أو معلول بعد هذا البحث، لأنه يخالف التاريخ. وما قام علم الحديث إلا على التاريخ.
سأقول في ختام هذه المقدمة بأن هذا الجهد المشكور من المؤلف يعيد لبحوث السنة النبوية ريادتها، لأنه قد آن الأوان أن نكتشف المدخول من المرويات، بعد حدوث هذا التقدم التجريبي في العصور المتأخرة.
من جهتي أقول الآن - بفضل هذا البحث - أن ما ورد في الصحيحين من أمر الرسول بصيام يوم عاشوراء لا يصح. فلا يبقى لنا إلا احتمال آخر تطرق إليه الباحث؛ أن هناك من وضع هذه الأحاديث، لغرض سياسي أو مذهبي، بعد استشهاد الحسين في عاشوراء: فإما أن يكون الشيعة قد وضعوه تقديسًا للحسين؛ وإما أن يكون السنة قد وضعوه ليشغلوا الناس عن خذلانهم الحسين بالتكفير عنه بالصيام. ولطالما كان الصيام تكفيرًا عن ذنوب هنا أو هناك في كل الشرائع.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
مقدمة الكاتب
ذكرت العديد من روايات الحديث حول صوم يوم عاشوراء، فقد جاء في البخاري ومسلم أن العرب صاموا العاشر من محرم قبل الإسلام، وفي رواية أخرى اتفق عليها أيضًا عند البخاري ومسلم أن المسلمين صاموه بعد الهجرة وبتوجيه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما وجدوا اليهود يصومونه كذكرى نجاة موسى - عليه السلام - من فرعون، وفي رواية في صحيح مسلم ذكرت أن المسلمين اشتكوا للرسول - صلى الله عليه وسلم - أنهم يصومون يومًا تعظمه اليهود، فوعد بأن يصوم العام القادم يومًا قبله مخالفة لليهود، وقد توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل عاشوراء ولم يصمه بطريقة مخالفة لليهود.
هذه الدراسة لم تناقش صحة الروايات؛ بل تسلط الضوء على التقويم العبري، وتبحث في الأيام العبرية التي ترافقت مع أهم أيام عاشوراء في التاريخ الإسلامي، فقد بحثتُ خلالها في المناسبات التي يصوم فيها اليهود، وكذلك في دقة التقويم العبري والهجري، وأجابت عن احتمال تغيرات التاريخ الإسلامي بسبب النسيء الذي كان قائمًا قبل التحريم، وما هو النسيء عند اليهود.
ناقشت الدراسة صوم عاشوراء من خلال مقارنة أيام عاشوراء في السنوات التي عاشها النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بجميع المناسبات اليهودية في نفس الأيام.
ومعلومٌ أن أول عاشوراء للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة كانت في العام الثاني للهجرة، وقد تبين من خلال الدراسة أن هذا اليوم صادف صيامًا لليهود بمناسبة مهمة جدًا تتعلق بالصراع الديني على المسجد الأقصى، ومعروفٌ أن هذا اليوم يأتي بعد عامين من رحلة الإسراء والمعراج.
كما سلطت الضوء على التقويم العبري في السنوات التي أعقبت استشهاد فيها الحسين، رضي الله عنه وعلى جده أفضل الصلاة والتسليم.
احتوت الدراسة ملحقًا (روزنامة) للتقويم الميلادي، مترافقًا مع التقويم الهجري والعبري لكل الشهور التي احتوت المناسبات ذات العلاقة بالموضوع.
لا يسعني إلا ان أشكر كل من ساهم في تصويب هذه الدراسة وتدقيقها ومراجعتها، كما أشكر د. خضر محجز على ما قدمه من ملاحظات كانت في غاية الدقة.