القدس المحتلة سماحالة ضبابية تسود قيادة “إسرائيل” بشقيها السياسي والعسكري؛ هذه الحالة جاءت نتيجة الفشل المتكرر التي منيت به على كل الصعد, مما حدا بجموعه من الباحثين والكتاب “الإسرائيلين” لإصدار دراسة أعتبرت كوثيقة هي الأولى من نوعها في التاريخ العسكري للجيش.
نستعرض في موقع عكا للشؤون الإسرائيلية هذه الوثيقة وأبرز ما جاء فيها، حيث تحتوي على تسعة عشر مادة، وشارك في صياغتها ثلاثة وعشرون باحثا، جاءت بعنوان “استراتيجية الجيش الإسرائيلي.. في مرآة الأمن القومي”، وفيما يلي ترجمة لأبرز ما ورد فيها:
جدل مستمر
ذكرت الدراسة أنه منذ أن نشر رئيس أركان الجيش، الجنرال غادي أيزنكوت في أغسطس/ آب من العام الماضي، علناً وللمرة الأولى في تاريخ “إسرائيل”، وثيقته المعروفة باسم “استراتيجية الجيش الإسرائيلي”، لم يتوقف الجدل في الأوساط الأمنية والعسكرية إلى جانب المستوى السياسي، حول طبيعة العلاقة بين قيادة الجيش والقيادة السياسية.
وقد ركز أيزنكوت في وثيقته في حينه، بشكل خاص على وجوب ترشيد الحوار بين المستوى السياسي والمستوى العسكري، لجهة توضيح المهام المطلوبة من الجيش في حال اندلاع حرب، وماهية الإنجازات التي يريد المستوى السياسي تحقيقها من الحرب، فضلاً عن توضيح الجيش وقيادته للمستوى السياسي ماهية طبيعة الأمور، أو الإنجازات التي يمكن للجيش تحقيقها، مع التأكيد على ضرورة توضيح مصطلحات ومفاهيم مثل الردع والحسم العسكري.
ومع أن أيزنكوت حدد في وثيقته المذكورة، أن الكلمة الأخيرة في نهاية المطاف هي للمستوى السياسي، إلا أنه أصر على جعل صلاحية إدارة العمليات القتالية، وتحديد مجريات المعركة، من اختصاص رئيس أركان الجيش، دون أن يكون معرضاً لضغوط من القيادة السياسية في كيفية إدارة الحرب والعمليات القتالية.
وتتابع الدراسة أن هذه الوثيقة اعتبرت اعتراضاً على القول لعناصر وقادة الأحزاب (الإسرائيلية) “دعوا الجيش ينتصر”، فقد أصدر مركز أبحاث الأمن القومي كتاباً جديداً، وضعه وشارك فيه عدد من كبار خبراء الأمن والاستراتيجية في “إسرائيل”، سواء من جاؤوا من الأكاديميين، أم من الجيش والمؤسستين العسكرية والأمنية، من بينهم وزير الدفاع السابق موشيه يعالون الذي قدم الكتاب، والوزير السابق دان مريدور المعروف بمحاولته بلورة عقيدة جديدة لمفهوم الأمن الإسرائيلي بين عامي 2006 و2008، ووضع تصوراً كهذا لم تقره الحكومة الإسرائيلية، وجاء الكتاب في أربعة أبواب أساسية، خُصص أول بابين فيه للأبعاد الاستراتيجية والسياسية لوثيقة أيزنكوت، أما البابان الآخران فخصصا للأبعاد العسكرية والمدنية والاجتماعية للوثيقة.
عناصر التهديد
أيزنكوت قال في وثيقته “إن الامتحان الأكبر للجيش هو في قدرته على ضمان فترات طويلة من الهدوء قدر الإمكان، لإتاحة المجال أمام التطورات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، ومراكمة القوة العسكرية لتكون قاعدة أكثر متانة تضمن جهوزيته للمواجهة العتيدة، واعتمد أيزنكوت بهذا القول على مبدأ “غياب نمط الحرب الخاطفة” أو”الحسم العسكري بالشكل التقليدي” السابق الذي ساد قبل الحرب الثانية على لبنان، وحروب “الرصاص المصبوب”، ومن ثم “عمود السحاب” و”الجرف الصامد” على قطاع غزة”.
وحددت وثيقة أيزنكوت أربعة عناصر أو إخطارات يُمكن لها تهديد أمن “إسرائيل”، في ظل التغييرات الاستراتيجية والإقليمية الجارية في المحيط، وهي: التهديد العسكري الإيراني على مختلف مركباته، النووية والصاروخية والسايبر، فضلاً عن الأخطار في الساحة الفلسطينية عموماً وفي الضفة الغربية والقدس خصوصاً، وتفكك الدول المحيطة بإسرائيل (في إشارة واضحة لسوريا والعراق)، الذي “وفر للجيش الإسرائيلي واقعاً جديداً ينطوي جزئياً على فرص يجب استغلالها في تعزيز التعاون مع جهات عربية براغماتية”، أما العنصر الأخير فيتعلق بتغيير نمط تحرك وأداء الدول العظمى في المنطقة.
المهام الضائعة
وتطرق واضعوا الكتاب لهذه الاستراتيجية بخطوطها العريضة، بما فيها إشارات لتغيير مفهوم قوة الردع الإسرائيلية وشكلها، في هذا الإطار، حيث رأى مريدور والباحث أليكس ألتشولر أن “وثيقة أيزنكوت تكتسب أهمية خاصة في ظل غياب ما يسمى بسياسة أمن قومي إسرائيلي محددة ومصادق عليها، لأنها تمكن من وجود رؤيا واضحة وشاملة للتحديات الأمني والعسكرية والاستراتيجية التي تواجهها “إسرائيل” وسبل التعامل مع هذه التحديات”.
واعتبر الثنائي أن “استراتيجية الجيش يجب أن تشتق من مفهوم واضح ومحدد المعالم للأمن القومي الإسرائيلي، التي يفترض فيها أن تكون أكثر شمولية من الاهتمامات العسكرية الصرفة للجيش، فهي التي يفترض فيها أن تحدد مثلاً كيفية رصد وتوزيع الموارد العامة للدولة لصالح الأمن، وتحديد سياسة إسرائيل الخارجية وإدارة منظومة الأبحاث وتطوير المشاريع في الدولة”.
وأضاف أنه “وفقاً لما جاء في وثيقة أيزنكوت، فإنه يتعين على الحكومة أن تقرر مهام الأجسام والأذرع المختلفة التي تختص بالأمن، وفي مقدمتها الجيش، لكنه لا يعمل وحيداً بل تعمل إلى جانبه أجسام وهيئات أخرى، مثل الموساد وجهاز الشاباك”.
نتائج محبطة
واتفق الباحثان مع ما جاء في وثيقة أيزنكوت بأن “على الحكومة أن تحدد طبيعة الوضع الراهن، والمعركة التي يخرج الجيش لها، وما إذا كانت حملة محددة أم حرباً شاملة، وما هي المهام والأهداف العينية المطلوب تحقيقها لضمان تحقيق النصر، مع وجوب الانتباه إلى أن الحرب لا تهدف فقط لتحقيق مكاسب عسكرية وإنما أيضاً لتحقيق أهداف سياسية”.
فيما قال مريدور إلى أنه “بفعل الاختلاف بين طبيعة الجيش الإسرائيلي والمقاومه بأشكالها، وتحديداً منظمات مثل حماس فإنه عند وقوع المواجهة العسكرية، تكون التوقعات من الجيش تحقيق نصر عسكري وحسم واضح، ما يخلق حالة من الإحباط عندما تكون النتيجة مغايرة، كما كان الحال منذ الحرب الثانية على لبنان والمواجهات الثلاث التي أعقبتها في غزة”.
واقترح الكاتبان في هذا السياق مثلاً الإعلان مسبقا “عن الأهداف التي يمكن تحقيقها من دون تفصيل سبل ضمان ذلك، الأمر الذي يخلق شعوراً بالنجاح بدلاً من مشاعر الفشل والإحباط ، التحديات التي تواجهها إسرائيل في تغيّر متواصل ومستمر، وهي تتطلب استراتيجية واضحة قادرة على مواجهتها، وفي مقدمة هذه التغييرات مثلاً ازدياد وصعود حركات شبه دولانية (حركات أقرب إلى دولة في قلب دولة) مقابل اختفاء خطر الجيوش النظامية التقليدية، مع ظهور خطر جديد هو خطر السايبر”.
وأشار مريدور الى ضرورة إضافة مبدأ رابع للمبادئ الثلاثة التي تشكل نظرية الأمن الإسرائيلية، وهو عنصر الدفاع إلى جانب العناصر الثلاثة التقليدية: الردع ثم الردع ثم الحسم العسكري مع وجوب تحديث متواصل للسياسات الأمنية بما يتلاءم مع التغييرات المختلفة.
نقاط الضعف
الباب الثاني من الكتاب تضمن الأبعاد والجوانب الاستراتيجية والسياسية لوثيقة أيزنكوت، وخصص الجنرال “أودي ديكل” جزءا منه لمقارنة استراتيجية الجيش بين عالم مضى وبين عالم جديد، في إشارة واضحة لوجوب ملاءمة استراتيجيات الجيش للتغييرات الإقليمية والعالمية.
واعتبر ديكل أن وثيقة أيزنكوت تعاني من ثلاث نقاط ضعف أساسية: الأولى نابعة من حقيقة بلورة الوثيقة، رداً على واقع الفراغ الكبير على مستوى الدولة كلها، والمتمثل بغياب مفهوم إسرائيلي متكامل للأمن القومي محُدث، إذ لا تزال “إسرائيل” تتبع السياسة أو المنظومة العقائدية الأمنية، التي وضع أسسها دافيد بن غوريون قبل ستة عقود.
أما نقطة الضعف الثانية، فتتمثل في غياب توجيه سياسي واضح لمفهوم الأمن الإسرائيلي، لأن الحكومة الإسرائيلية والمستوى السياسي في “إسرائيل”، يفضل من دون أدنى شك المحافظة على الوضع القائم في هذا السياق عبر بلورة واقع سياسي ـ أمني أفضل، لأنها تعتقد أن الإبقاء على الوضع القائم بشكل دائم هو أفضل لإسرائيل بكثير، في وقت يمتاز بالتحولات والانقلابات الإقليمية، وغياب شريك موثوق لمفاوضات وتسويات في الساحة الفلسطينية.
بحسب ديكل فان نقطة الضعف الثالثة تتمثل في أن الجيش الإسرائيلي لا يزال أسيراً لعقيدة العمل السابقة والقديمة، على الرغم من أنه يشخص ويرصد تغييرات جوهرية وقعت في بيئته الاستراتيجية، فهو لم يتخذ بعد الخطوات اللازمة والمطلوبة للانتقال من “العالم القديم” إلى “العالم الجديد” وهو أي –الجيش- لا يستطيع مثلاً الفكاك من عقلية وجوب الحسم المبني على المناورات والعمليات البرية في عمق أرض العدو، ويواصل أيضاً الاعتماد أكثر من اللازم على قوة الردع، في ظل غياب تعريف واضح ومحدد من المستوى السياسي للواقع الاستراتيجي الجديد الذي يتعيّن على الجيش العمل للوصول إليه، وذلك بفعل الصعوبة الكامنة في تحديد مركز الثقل عند الأطراف شبه الدولية والأطراف الأخرى والتأثير على نوايا هذه الأطراف.
تردد وضبابية
وفي سياق تداعيات وثيقة أيزنكوت وتأثيراتها ومدى تفاعل المستوى السياسي والجمهور الإسرائيلي معها، وضع النائب الحالي في الكنيست عوفر شيلح، وهو أحد أفضل المحللين العسكريين سابقاً في “إسرائيل”، وعضو لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست واللجان السرية المتفرّعة عنها، مقالاً اعتبر فيه أن وثيقة أيزنكوت تضع تحديات كبيرة أمام المستوى السياسي و”الجمهور الإسرائيلي”.
وأشار شيلح في مقاله إلى “التغيير الذي طرأ للوهلة الأولى على نمط وجوهر أداء رؤساء أركان الجيش الإسرائيلي بعد الحرب الثانية، ونزوعهم إلى الظهور بمظهر المستوى المهني الذي ينفذ المهام المطلوبة منه، بدا وكأنه تجلّي الفصل بين المستوى التنفيذي الجيش، وبين المستوى السياسي، تحديداً في ظل عدم استعداد المستوى السياسي لتحديد الأهداف المطلوبة، وهو ما ساهم بالتالي في كثير من مواطن الخلل والإخفاقات التي رافقت العملية الأخيرة على قطاع غزة (2014) التي تجلّت في التردد والضبابية والتحرك عسكرياً بأسلوب تقليدي ومحافظ.
واعتبر شيلح أن نشر الوثيقة كان بمثابة تحدّ كبير من الجيش للمستوى السياسي، فهو يطلب بوضوح تحديد المهام المطلوبة، مقابل الاحتفاظ بحق إدارة العمليات القتالية، وتحديد ما يمكن تنفيذه وما لا يمكن طبقاً لطبيعة المهام وطبيعة الوسائل والموارد المتوفرة له، ما يعني أن الجيش يخلي ساحته مسبقاً من حالة فشل أو هزيمة، عبر وضع الشروط الأولية التي يطلب توفرها لضمان تحقيق النصر، مع اعتبار النصر في المعركة هو تحقيق المهام التي حددت له وليس بالضرورة تحقيق الحسم العسكري وإخضاع الطرف الآخر.