القدس المحتلة إيلي افيدار جلب دخول أفيغدور ليبرمان وزارة الدفاع، في أيار الماضي، سلسلةً من التصريحات الكفاحية على لسان قادة «حماس». وحتى قبل التعيين المفاجئ جعل ليبرمان غزة مركز اهتمامه الأمني حين انتقد الأهداف المحدودة لحملة «الجرف الصامد»، ودعا المرة تلو الأخرى إلى اسقاط حكم «حماس». وهكذا ميز ليبرمان نفسه عن نهج جهاز الأمن منذ حملة «الرصاص المصبوب- حرب2008-2009» والتي تحدد فيها هدف المواجهات العسكرية بلجم «حماس» وليس بالضرورة اسقاطها، خشية الفوضى على الأرض، والتي ستنتقل نحو اسرائيل.
خلق تعيين ليبرمان رغبة لدى «حماس» في تثبيت ميزان جديد حيال القيادة الاسرائيلية، وهذا هو سبب التصريحات الكفاحية من جانب قادة المنظمة في الربيع وفي الصيف الماضيين. هكذا مثلا قال محمود الزهار، عضو القيادة السياسية لـ»حماس»: إن المنظمة ستتصدى لوزير الدفاع الجديد بروح متحفزة، بينما أشار اسماعيل هنية، نائب رئيس المكتب السياسي لـ»حماس»، إلى أن وقف النار بعد «الجرف الصامد» سيشكل لـ»حماس» مجالاً للاستعداد للمواجهة التالية. وقال هنية: «نواصل بناء وتطوير قواتنا. وسنواصل حفر الأنفاق تحت الأرض، هذه هي الطريق لتحرير القدس».
بعد أشهر من الهدوء النسبي في الصيف، انتظرت فيها «حماس» لترى ما هي النوايا العملية لإسرائيل، يبدو ثمة تصعيد مهم في غلاف غزة. فـ»حماس» تحاول خلق ميزان رعب محسن حيال اسرائيل، ولكنها تعطي الانطباع بأنه مثلما في 2014 تفشل المنظمة في فهم العقلية الاسرائيلية، ومن شأنها أن تدهور المنطقة إلى حرب أخرى توقع مصيبة أخرى على سكان القطاع، وتجبر إسرائيل على أن تقرر اذا ما كانت معنية حقاً بإسقاط حكمها مرة واحدة والى الابد.
تآكل تدريجي
لفهم الشكل الذي وصلنا فيه مرة أخرى إلى حافة المواجهة ينبغي النظر إلى الواقع من زاوية نظر «حماس». منذ حملة «الرصاص المصبوب» أقامت المنظمة كما ترى ميزان رعب حيال اسرائيل، وبموجبه لا تعمل بشكل مباشر ضد اسرائيل من حدود غزة، سواء بإطلاق الصواريخ أو بإرسال الخلايا في الأنفاق، بينما اسرائيل تمتنع عن هجمات مباشرة على أهداف المنظمة الاستراتيجية وعلى مسؤوليها.
تجري المواجهة بين الطرفين في ساحات بديلة وبقوى منخفضة. تدمر إسرائيل بمنهجية الأنفاق الهجومية التابعة لـ»حماس»، وتعمل ضد بنيتها التحتية في الضفة الغربية، بينما تسمح المنظمة بين الحين والآخر بإطلاق الصواريخ عن طريق إحدى المنظمات في القطاع كما تبادر إلى عمليات في أراضي السلطة في الضفة. وهكذا تكسب «حماس» على حد نهجها مرتين: تضرب الجبهة الداخلية الإسرائيلية كما تشدد الضغط على محمود عباس. وتحقق «حماس» النقاط في الرأي العام الفلسطيني، وتخلق على حد فهمها روافع ضغط أخرى حيال اسرائيل.
هذا النهج، المتمثل بالتآكل التدريجي للوضع الراهن، لم يولد في غزة. فمن طوره كان حسن نصر الله، منذ التسعينيات وقبل الانسحاب الاسرائيلي من الحزام الأمني. ويؤمن نصر الله بأن المجتمع الاسرائيلي هش وأن تنقيط العمليات والانجازات العملياتية تدفعه إلى اليأس والانسحابات. فالانسحاب من لبنان جعل «حزب الله» بطلا في العالم العربي، ودفع منظمات عديدة، وعلى رأسها «حماس»، لتبني «طريقة عمله».
وكما يذكر، فإن المحاولة الأهم التي قام بها «حزب الله» لتغيير ميزان القوى كانت عملية الأسر التي أدت إلى بدء حرب لبنان الثانية في 2006. ووفقا لفهمه، قدر نصر الله بأن رد اسرائيل سيكون محدودا، وأن نتيجة الخطوة ستكون تآكلا إضافيا في الوضع الراهن، تعزيزاً لـ»حزب الله» في لبنان، واثبات قيمة التنظيم أمام مسؤوليه الايرانيين وشركائه في دمشق.
ولكن الأمور تدحرجت بشكل مختلف تماما. فحرب لبنان الثانية ثمة جدال جماهيري عميق في إسرائيل بشأنها، ولا شك أنه انكشفت فيها اخفاقات ثقيلة الوزن في استخدام القوة العسكرية وفي حماية الجبهة الداخلية. ولكن الحرب ألحقت أيضا ضررا لا مرد له بالطائفة الشيعية وببناها التحتية في جنوب لبنان، ونجحت في ردع «حزب الله» عن القيام بعمليات أخرى إلى أن نشبت الحرب الأهلية في سورية، وغيرت نهائيا الاستراتيجية والاهداف لدى التنظيم. لقد أوضحت الحرب ضد اسرائيل لنصر الله بانه أخطأ في فهم آليات التفعيل الاسرائيلية؛ والدليل على التشويش الذي كان يعيشه «حزب الله» بعد 2006 كان إعلان زعيم «حزب الله» بأنه ما كان ليسمح باختطاف الجنود لو كان يعرف بأن هذا سيكون رد إسرائيل.
ما فوته نصر الله وحزب الله هو أن استخدام القوة الاسرائيلية هو ثنائي في جوهره: الامتصاص وضبط النفس حتى لحظة استخدام القوة المهمة والساحقة. وفسر «حزب الله» – وبعد ذلك «حماس» – فترة ضبط النفس كدليل على الضعف الاسرائيلي، وهكذا سمحا لنفسيهما التجرؤ أكثر فأكثر، حتى اجتياز الحدود. في اللحظة التي نشأ فيها محفز حقيقي، ما كانت لإسرائيل ولا خصومها يعرفون كيف يتوقعونه، فإن المجتمع الاسرائيلي يتجند للجهد، وتنطلق المعركة العسكرية لرد واسع ومهم.
في نظرة أوسع يمكن القول أن الفهم الثنائي الاسرائيلي غريب على المنطقة العربية بشكل عام. فالعالم العربي يتصرف بفهم متعدد القنوات، مثل لوحة مئات الأزرار التي تسمح بعلاقات دبلوماسية إلى جانب استخدام «الارهاب» حسب الكاتب، المواجهة المحدودة، والتعاون. في هذه المنظومة كل تغيير مثل تغيير الأشخاص في وزارة الدفاع الاسرائيلية أو تغيير الحكومة في القدس يؤدي بالخصم العربي إلى فحص حدود الجبهة وإلى استفزازات صغيرة تستهدف تحسين المواقع أو تحريك قواعد الوضع الراهن قليلاً في صالحهم. أما اسرائيل من جهتها فمعنية بالامتناع عن المواجهة، ولكن ضغطة على الزر غير الصحيح تؤدي بها إلى تفعيل شامل. وقد سبق لـ»حزب الله» أن فهم هذا الدرس ولكن «حماس» لم تفهمه بعد.
الظروف ليست في صالح «حماس»
كما اسرائيل و«حماس» قريبتان من المواجهة؟ كما أسلفنا، فإنه لا يمكن توقع المحفز للعمل مسبقا. يحتمل أن يكون ثمة انحراف بضعة أمتار لمقذوفة صاروخية تنفجر وسط سديروت، وتؤدي إلى اصابات في الأرواح، هو كل ما يلزم لإخراج الجيش الاسرائيلي إلى حملة أخرى في القطاع. ويحتمل أنه بالذات لأن وزير الدفاع الجديد يفكر بجدية بإسقاط «حماس»، فإن طول نفسه حتى لحظة الخروج إلى الحملة سيكون أطول، وذلك كي يصل إلى المواجهة مع كامل الدعم الجماهيري والدولي. في هذه الأثناء يبدو أن الرد الواسع نسبياً لإسرائيل في القصف على القطاع أدى إلى هدوء معين.
غير أنه طالما واصلت «حماس» قراءة اسرائيل من خلال المفهوم المغلوط لنصر الله (الذي لم يعد يؤمن به هو نفسه) فإننا نواصل السير نحو مواجهة شاملة، بالحظ فقط لم تقع حتى الآن. تتباهى «حماس» بالخسائر التي نجحت في ايقاعها بإسرائيل في حملة «الجرف الصامد»، ولكنها تميل إلى نسيان الثمن الهائل الذي دفعته المنظمة وسكان القطاع على ذلك، ولا تقدر على نحو سليم القدرة الاسرائيلية على استخلاص الدروس والتحسن، على الأقل في المجال العسكري.
وفضلا عن ذلك، فإن الظروف الدولية لنهاية 2016 تميل كلها في صالح المنظمة: مصر ترى فيها عدوا، قطر معنية بالعودة إلى قلب الاجماع الدولي، الولايات المتحدة منشغلة بالانتخابات للرئاسة، والعالم كله فقد الاهتمام بالموضوع الفلسطيني. على هذه الخلفية، ليس واضحاً أي انجازات موضوعية تسعى المنظمة إلى تسجيلها حيال اسرائيل. من المعقول أكثر الافتراض بأن استمرار الاستفزازات سيؤدي إلى اجتياز الحافة ومواجهة شاملة أخرى، تجبي ثمنا معينا من اسرائيل ومن مواطنيها، ولكن تؤدي إلى كارثة مطلقة في القطاع.
إن إخفاق «حماس» في قراءة الواقع يؤدي الى معضلة في الجانب الاسرائيلي. فمع التدهور الى الجولة التالية سيتعين على حكومة اسرائيل أن تقرر حتى متى ستكون مستعدة لمواصلة الموافقة على وجود حكم عاق، سائب، وعنيف على حدودها، إذا أراد يشعل المنطقة وإذا أراد يوقف النار ويدخل في فترة تسلح وتطوير للقدرات الهجومية. الإحساس هو أننا نقترب من لحظة اجتياز الحافة في القدس.
عن إسرائيل درج القول أنها «تستعد للحرب السابقة»ـ ولكن يبدو هذه المرة أن «حماس» بالذات تفكر إلى الوراء بدلاً من أن تفكر إلى الأمام. في التركيبة الحالية للكابينت السياسي الأمني، حين يكون صبر بلدات غلاف غزة نفد والجاهزية الهجومية للجيش الاسرائيلي تتحسن، يبدو أن الاشتعال التالي سيكون مهما ويغير الواقع أكثر من كل ما سبقه.