القدس المحتلة / حلمي موسى / شكّلت حرب تشرين في العام 1973 نقطة تحول مركزية في الواقع الاستراتيجي في المنطقة العربية. إذ قادت نتائجها إلى ما اعتبره بعض العرب انتصارا يسمح للأنظمة القائمة بإبرام معاهدات سلام مع إسرائيل في حين رأى آخرون أنه يوفر أساسا للتقدم نحو توازن استراتيجي من نوع جديد. وفي الحالتين هدأت الجبهات الرسمية مع إسرائيل إما بموجب اتفاقيات سلام أو بسبب اتفاقيات هدنة. وهذا قاد إلى نوع جديد من الصراع أساسه فصائل المقاومة.
وخلافا لما كان قائما قبل حرب تشرين حين كانت فصائل المقاومة مجرد أدوات إشغال للعدو في زمن تستعد فيه الجيوش الرسمية للحرب، صارت المقاومة بعد الحرب استراتيجية قائمة بذاتها. ويرى البعض أن تداخلا ظل قائما بين المقاومة والاستراتيجية الرسمية لسوريا في ظل سعيها لتحقيق التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل سمح بتنامي دور المقاومة. ويمكن تقريبا القول حاليا بأن انهيار منظومة الدول العربية الرسمية أزال عن إسرائيل ما كان يعتبر الخطر الأول ونقل إسرائيل إلى دائرة الحديث عن أن الخطر النووي الإيراني هو الخطر الوجودي الوحيد.
غير أن الاتفاق النووي مع إيران، رغم عدم تقبل إسرائيل له جراء شدة مطالباتها، أزال الخطر النووي أيضا، ولو إلى حين. وبإزالته تراجع بشكل حاد الحديث عن وجود خطر وجودي على الدولة العبرية. وليس صدفة أن إسرائيل شهدت في العام الأخير سجالات حادة بين من يرون في نهج نتنياهو استخداما لفزاعات لم تعد موجودة وبين من يصرون على استمرار الخطر الوجودي. وفي كل حال ثمة أهمية كبيرة لما أشار إليه رئيس الموساد السابق تامير بردو الذي أكد أن إسرائيل لم تعد تواجه خطرا وجوديا خارجيا وأن الخطر الأكبر الذي يتهددها هو خطر داخلي.
وأيا يكن الحال، فإن الخطر الذي تمثله المقاومة على إسرائيل ظل مشهودا وازداد حدة. وهكذ وجدنا إسرائيل تطور خلال السنوات الأخيرة، خصوصا بعد حرب لبنان الثانية وحروبها الكبيرة على غزة في الثماني سنوات الأخيرة، نظريات قتال ضد المقاومة في طورها الحالي. وتعتمد هذه النظريات على أساس فكرة ترى أنه ليس بالوسع تحقيق ردع في مواجهة تنظيمات مقاومة إلا بتكثيف وتشديد الثمن. وتجلى ذلك أساسا في حرب لبنان الثانية عندما تم استخدام ما عرف بـ «نظرية الضاحية». وقضت هذه النظرية بتدمير أبراج سكنية أو أحياء مقابل كل بيت يهدم في إسرائيل جراء سقوط صاروخ عليه. وتجسدت هذه النظرية لاحقا في الحروب الإسرائيلية المدمّرة على غزة من «الرصاص المسكوب» وحتى «الجرف الصامد».
لكن جدوى تحقيق الردع عبر الصيغة الجديدة ظل مشكوكا فيه ولا أحد يستطيع اثباته. وإذا كان الهدوء على الحدود مع لبنان مستمراً جوهريا منذ عقد من الزمان فإن أسباب الهدوء لا تتمثل في ردع إسرائيل لـ «حزب الله» وإنما أيضا في ردع «حزب الله» لإسرائيل. وهذا تجلى من خلال ضبط إسرائيل كثيرا لنزعاتها العدوانية في لبنان وتقليص مستوى تدخلها إلى ما اعتبرته «خطوط حمراء» غالبا ما يجري التعامل معها في المنطقة الرمادية على الحدود مع سوريا.
وفي غزة ثبت أن الردع الإسرائيلي مفهوم ينتقل غالبا من الحالة الصلبة إلى الغازية من دون المرور بالسيولة. فانتقال دورات الحروب من عشر سنوات في المتوسط، كما كان مع الجيوش العربية، إلى عامين في المتوسط كما هو الحال مع حماس لا يؤكد صلابة الردع. ويشكك كثيرون في إسرائيل بما تدعيه أوساط سياسية وعسكرية حول رسوخ الردع خصوصا بعد تسلم أفيغدور ليبرمان وزارة الحرب. فالمسألة لا ترتبط بمواقف متطرفة لهذا أو ذاك بقدر ما ترتبط بقراءة باردة للاعتبارات والموازين. وبعد الحرب التي استمرت أكثر من خمسين يوما على غزة صارت إسرائيل تفكر ألف مرة قبل أن تستسهل الخروج في حرب أو عملية واسعة في القطاع. فما تراكم من عوامل قوة قادرة على إلحاق الضرر بالجبهة الداخلية الإسرائيلية يمنع إسرائيل من استعراضات قوة سهلة.
وفي الأسابيع الأخيرة عندما شنّت إسرائيل غارات مكثفة على القطاع، قالت إنها كانت لاختبار منظومات إدارة عمليات جديدة، كرر كثير من المعلقين العسكريين تقديراتهم بأن هذه «مقامرة لمرة واحدة». إذ لا يمكن الركون إلى تقديرات متفائلة بشأن عدم رغبة حماس في المواجهة لاستفزازها. فهي قد تخالف التقديرات وترد على نتنياهو وليبرمان الأمر الذي قد يقود إلى حرب قبل أن تتم تسوية الخلافات بشأن الحرب السابقة.
وإذ كان هذ الكلام يصح كثيرا على قطاع غزة والمنظمات العاملة فيه، وهو قطاع محاصر ومنظماته لا تملك خطوط إمداد واسعة مع الخارج، فإنه يصح أكثر على «حزب الله» ولبنان. فـ «حزب الله»، الذي راكم، وفق التقديرات الإسرائيلية خبرات قتالية واسعة في الحرب الأهلية السورية وصار يمتلك مقدرات عسكرية قد لا تمتلك مثلها دول كثيرة في العالم، صار الهدف الذي يتدرب الجيش الإسرائيلي لقتاله. وقبل أسابيع تم كشف النقاب عن تكثيف تدريبات للكوماندوس البحري ومشاة البحرية الأميركية لمواجهة قوات مشابهة لـ «حزب الله». واليوم يتبين أن سلاح الجو الإسرائيلي غيّر من بنيته التنظيمية للتجاوب مع التطورات الجديدة وبينها تنامي قوة «حزب الله».
في كل الأحوال، واضح أن المقاومة شكّلت تحدياً كبيراً لإسرائيل حتى في ظل تراجع التحدي الرسمي العربي. وهذا التحدي ليس كما كان في الماضي محصور في الجانب المعنوي، صار تحديا عمليا يزداد حدة.