لا يمضي يوم دون أعمال عنف داخلية في طول وعرض الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد يتحول أي خلاف إلى عنف متبادل لا تحمد عقباه.
كانت الحرب التي اندلعت بين عائلتين في بلدة يعبد القريبة من مدينة جنين نموذجاً مخيفاً لحروبنا الصغيرة، فقد تحول كل المنتمين لقبيلة «أ» مثلاً إلى هدف مباشر وتلقائي لمنتسبي قبيلة «ب»، مهما كان الشخص كبيراً أم صغيراً، مؤيداً أو مناهضاً لمثل هذا النوع من الصراع الأهلي وأيّاً كانت المنطقة التي يتواجد فيها أبناء القبيلتين حتى في المستشفيات وأثناء تلقي العلاج.
عشرات الأحداث المثيلة وقعت في شهر رمضان وما قبله، في الضفة والقطاع، في المدينة والقرية والمخيم، ما يشير إلى وجود ظاهرة العصبيات القبلية والعشائرية العنيفة التي تهدد السلم الأهلي الفلسطيني.
تهديد السلم الأهلي وتحويل أي خلاف إلى صراع دام، من شأنه أن يخلخل وحدة المجتمع ومنظومة قيمه وأواصره المدنية والوطنية ويؤدي إلى تفكيكه وتحويله إلى جماعات متناحرة لا يجمعها أي هدف مشترك.
يلتقي هذا التحول في حالة استمراره وتفاقمه إلى هدف الكولونيالية الإسرائيلية المركزي وهو تقويض مقومات وحدة الشعب وتطوره بمستوى تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة، وهذا يعيدنا إلى الموقف الإسرائيلي التاريخي الذي لم يعترف بوجود شعب آخر ولا يرى فيه إلا مجموعات قبلية أقل من شعب وقومية وغير مؤهل لتقرير المصير وينبغي فرض الوصاية عليه وحكمه من قبل طرف آخر، لأنه غير مؤهل لحكم نفسه بنفسه وغير جدير بدولة، فما حدث ويحدث في بلادنا من صراع داخلي يعزز الادعاءات الكولونيالية الإسرائيلية ويخدمها ويجعلها قابلة للتحقيق.
مفارقة قد تكون غريبة، في وصولنا إلى المستوى الذي رغبت وعملت الكولونيالية الإسرائيلية على تحقيقه، فهذا المستوى من الصراع الداخلي الآخذ بالتفاقم يوماً بعد يوم يتناقض مع المصالح الفعلية لعموم الشعب بمختلف مكوناته الداخلية، وعلى الرغم من ذلك تتصارع العشائر والمجموعات والأفراد دافعين العجلة نحو الهدف الكولونيالي دون أن يدروا أو يعرفوا مدى خطورة أعمالهم.
وعلى الرغم من ذلك فإن مستوى تدخل القوى السياسية الفلسطينية لا يرقى إلى مستوى قطع الطريق على الصراع الداخلي، بل لقد وجد فيه البعض فرصة لتعزيز نفوذه وقوته الحزبية الفئوية، متناسياً أنه يلعب بالنار التي ستأتي على الأخضر واليابس.
كم هو مهم وضروري التوقف عند هذه الظاهرة التي قد تكون عصية على السيطرة ما لم يتم التدخل سريعاً لمعالجة أسبابها الداخلية وإلى الحد من تأثير العامل الخارجي وفي مركزه الاحتلال.
تحديد الأسباب وتشخيص الظاهرة يأتي في المقدمة من حيث الأهمية، وعند البدء بالأسباب، فإن توحش الاحتلال والمحتلين في نهب الأرض والموارد وفي قطع الطريق على تبلور تشكيلة اقتصادية اجتماعية بما هي رافعة وأساس مادي لتطور المجتمع. تخريب الزراعة والصناعة وكل عمل منتج يقود إلى الانفصال عن علاقات التبعية السياسية والأمنية والاقتصادية كان ديدن العلاقات الاستعمارية، كما أن الاستعاضة عن العمل المنتج بفقاعات اقتصادية وبمشاريع الربح السريع في إطار السياسة النيوليبرالية، جعل الفقراء يزدادون فقراً والأغنياء يزدادون غنى، والأخطر هو أن اعتماد العمل غير المنتج والاقتصار على مشاريع الربح السريع المترافقين مع سياسة الاعتماد على المانحين كمصدر رئيس في الدورة الاقتصادية، كل ذلك قاد إلى بنية مشوهة. العمال بلا مصانع والجزء الأكبر منفصل عن رأسمالية منتجة، والفلاحون بلا أرض وقد تحولوا إلى الخدمات، والطبقة الوسطى موزعة على وظائف قوى غير منتجة. وبفعل ذلك تحولت الولاءات والانتماءات من النقابة العمالية واتحاد الفلاحين والتنظيم السياسي والمنظمة ومؤسساتها كممثل وإطار جامع يدمج المكونات ضمن مصلحة مشتركة، إلى الولاء للعشيرة والقبيلة والعائلة والمؤسسة الدينية السياسية التي تضم فرقاً من الوعاظ والواعظات وشيوخ المساجد ومراكز القوى التي تملك المال. وتوزعت الطبقة الاجتماعية على انتماءات جهوية وأبوية. إنه التفكك الذي يعيد علاقات الناس إلى علاقات ما قبل المجتمع المدني أو ما قبل المجتمع الرأسمالي.
السياسة الكولونيالية مسؤولة عن التحولات الرجعية في المجتمع الفلسطيني، لكنها ليست وحيدة في المسؤولية، فقد سبق وأخفقت مراراً وتكراراً، واضطرت مؤسساتها للعمل بوتائر بطيئة، وأخفقت في معارك ومحاولات عديدة، لكنها بدأت بتحقيق أهدافها بمستوى ملحوظ وخطير في السنوات الأخيرة.
حدث ذلك عندما تراجعت المؤسسات التنظيمية والنقابية والمهنية والشعبية وانفصلت عن مهمتها في تلبية احتياجات القطاعات التي تمثلها، وتحولت إلى جهاز بيروقراطي يمثل نفسه ويدافع عن مصالح أعضائه، وحدث ذلك، عندما لم تحاول المؤسسات التمثيلية تجديد بنيتها الشائخة والمترهلة، وقدمت نفسها في حالة عجز مستدام، ما أدى إلى انفضاض قواعدها الشعبية، خاصة الأجيال الشابة؛ بحثا عن بدائل في القبيلة والعشيرة وأبوات جدد يملكون المال ويوظفونه على مقاس طموحهم في الصعود إلى السلطة. وهذه النقلة أدت وتؤدي إلى ثقافة العصبيات العشائرية، التي تؤدي إلى الاشتباك والقتل لأتفه الأسباب. وحدث ذلك عندما عجزت الحركة السياسية بمختلف ألوان الطيف السياسي عن انتزاع زمام المبادرة السياسية وإعطاء أمل في إنهاء الاحتلال، فقد راوح الموقف السياسي بين توسل التدخل الدولي المعروف بمواقفه السلبية التي كان آخرها بيان الرباعية الدولية الذي ساوى بين احتلال يستوطن ويضم ويهود أرض شعب، وينهب الموارد ويفرض حصاراً خانقاً يرتكب جرائم حرب لا حصر لها، وبين شعب خرج من بين صفوفه من قاوم الاحتلال بمبادراتهم الخاصة، تحولت مبادرات الأفراد إلى عنف مسؤول عن فشل الحل السياسي يساوي سياسة الاحتلال المنهجية في تدمير مقومات كل أنواع الحلول السياسية بما في ذلك الحكم الذاتي.
إن الفشل أمام الإغلاق السياسي أدى ويؤدي إلى نزع كل ثقة بالمؤسسة الفلسطينية، وفي غياب هدف مشترك كإنهاء الاحتلال، تتحول السلطة والمؤسسة التي انبنت وتأسست لهذا الغرض، إلى طرف متهم يصعب الانضباط له والالتزام بتعليماته.
هذا هو الأساس الذي يتحول فيه احتكار السلطة للعنف أو القوة التي تضبط من خلاله تجاوزات المجتمع وخلافاته، إلى دخول الأفراد على خط حل مشكلاتهم بأيديهم، والرد على أي مظلومية واقعية أو متخيلة بالعقاب الفردي الفوري والعنيف، وعندما يترافق العجز المؤسسي والسلطوي بفساد الواسطة والمحسوبية واستخدام الوظيفة لأغراض فردية يتعزز فقدان الثقة اكثر فأكثر.
Mohanned_t@yahoo.com


