عملية "الثقل النوعي" التي وقعت بعد الحرب حظيت بتسمية "ليلة الفجر"، وكانت ربما العملية الأكثر إثارة للجيش الإسرائيلي في حرب لبنان الثانية، وكان هناك من سمى هذه العملية "المتألقة"؛ بل وقد قارنوها بعملية بدء حرب الأيام الستة، حيث دمّر حينها سلاح الجو الدول العربية.
خلال 34 دقيقة فقط؛ دمر سلاح الجو مخازن الصواريخ وحوالي 60 قاعدة إطلاق بعيدة المدى ومتوسطة، وبالتالي أخرجت مناطق واسعة من البلاد عن مدى نيران حزب الله. مرابض الإطلاق هذه أخفيت في قلب القرى وفي غرف المنازل، الضربة على الجانب الآخر كانت مضاعفة: إلى جانب خسارة جزء من التهديد الصاروخي فإن نصر الله وعرابيه في إيران تعلموا ان مشروعهم الأكثر تكلفة والأكثر سرية كان شفافًا بالنسبة للمخابرات الإسرائيلية.
عشر سنوات انقضت منذ حرب لبنان الثانية، وما تزال تثير خلافًا لدى الجمهور الإسرائيلي؛ لكن أقل بكثير في المؤسسة العسكرية، هناك واثقون من ان المقصود حرب ناجحة، وعملية "الثقل النوعي" تعتبر بالنسبة لهم نموذجًا للنجاح، وأمر واحد يجمع عليه الجميع: هذه العملية كانت هي اللحظة التي دخل فيها الجيش الإسرائيلي في حرب كاملة ضد حزب الله. بعد حوالي عشر سنوات رجال المخابرات والطيارون يتحدثون عن دورهم في هذه العملية المثيرة.
صاروخ في صالون المنزل
"الثقل النوعي" كانت في الواقع الجزء النهائي للعملية التي استمرت لعدة سنوات، "لحظة إطلاق الملاح القنبلة على الهدف هي الجزء الأسهل من العملية" يقول دورون الذي كان حينها ضابطًا في واحدة من الوحدات الاستخبارية الرائدة في الجيش الإسرائيلي، "تقف وراء الضغطة على زناد الإطلاق آلاف الساعات من العمل الاستخباري وقائمة طويلة من الخطوات".
دورون - اليوم هو صاحب هايتك في شركة معروفة - يقول بأن عملية الجمع بدأت بوقت قصير بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان أيام حكومة باراك، "سرعان ما اتضح ان الإيرانيين يدخلون بقوة إلى الصورة ويقيمون هناك ما يوصف اليوم بالفرقة الإيرانية على الحدود الشمالية. انقضت الآن عشر سنوات لكن الأمر لم يختلف، كما قال رئيس الحكومة قبل عدة أيام اننا نتعقب ما يجري في لبنان ولن نسمح بإدخال السلاح إلى هناك".
في العقد المنصرم لم تدمر القوافل في سوريا، وإنما تعقبوا آثار السلاح ليعلموا إلى أين يذهب، حزب الله قرر ان يخفي القاذفات بعيدة المدى والسلاح الاستراتيجي داخل المنازل التابعة لنشطائه أو منازل مواطنين أجروا له غرفًا، كان التقدير بأن إسرائيل ستجد صعوبة في تعقب القاذفات وفي جميع الاحول لن تهاجم عشرات المنازل المدنية، نشأ وضع فيه تجلس عائلة لبنانية في صالون منزلها لتناول وجبة ما أو لمجرد مشاهدة التلفاز وفي الغرفة القريبة يقبع قاذف هيدروليكي يحمل صاروخا تبلغ مسافته 160 كم، لحظة صدور الأمر تنتظرها منظومة تهدم الحائط وتشهر القاذف وتطلق الصاروخ ويكون المنزل بذلك قد قام بما عليه.
دورون لم يحكي طبعًا كيف جمعت المعلومات، ولكنه كثيرًا ما كرر عبارة "أنت تبني ملفًا لهدف ما، وبكل بساطة تدخل إليه المعلومات تترًا، ما يصل من هناك ينضم إلى ما يصل من هنا، وهناك جزء تتلقاه بطرق أخرى إلى ان تعرف نهاية المطاف ماذا تقول عمّا هناك ومن هناك، والمعطيات التي يجب على سلاح الجو ان يزود بها الملاحين"، في هذه المرحلة تكون المخابرات قد علمت كيفية بناء المنزل، وما هي سماكة الجدران، وفي أي غرفة تحديدًا توجد القاذفة.
في كل ساحة عمل تهمه يوجد لدى الجيش الإسرائيلي سلة أهداف، والشخص المسؤول عن جمع المعلومات في "ملف الهدف" هم في الغالب رجال "الموساد"، عندما يخرج الجيش الإسرائيلي لمهاجمة أهداف في سوريا أو لبنان من المفترض ان رجال "الموساد" مسؤولون عن تشريح المعلومات، يوسي ميلامين صحفي ومؤلف كتاب "حروب الظلال والموساد ومجتمع المخابرات" شرح انه في الماضي "قد بنى الموساد ملفات أهداف بالتعاون مع الاستخبارات العسكرية، وهم يجمعون معلومات مثلًا عن القيادة العليا لحزب الله، الاستخبارات العسكرية بوسائلها الخاصة والموساد من خلال عملائه والأدوات التي يمتلكانها، وفي هذه النقطة يوجد في بعض الأحيان تداخل بين الموساد والـ 504".
في كتابهما "مأسورين في لبنان" يشر كل من يوآف ليمور وعضو الكنيست عوفر شيلح ان "أكثر من 40 عملية خاصة لوحدات الاستخبارات العسكرية المختلفة أوصلته إلى هذا المستوى الرفيع، إلى ان إسرائيل لم تكتف بامتلاك خارطة دقيقة لمكان وجود صاروخ فجر في قعر غرفة محددة فقط، وإنما أيضًا بالقدرة على التحرك".
دورون وهو ضابط مخابرات شارك في الكثير من ذات تلك العمليات: "الناس لا يفهمون، لكن عمل المخابرات هذا ليس كما يشاهد في الأفلام، إنها ساعات طويلة من ساعات العمل في المكاتب اليابسة، حيث تجمع بين الوثائق والمعلومات والأرقام، إنك تجمع صورة تقود إلى الحرب".
ضبابية روتين العمل - يقول دورون - لم تمس بالدوافع، "لقد استغرقنا عميقًا في الأمر، وكان واضحًا لنا انه من الأمور الأكثر أهمية التي تريد ان تقوم بها في حياتك على المستوى التاريخي، لذلك فقد قضينا فيه أيامًا وليالي، بلغنا المستوى الذي قدمنا فيه للطيارين بكل بساطة طبق الطعام وعليه شرائح اللحم بعد ان قطعناها لهم وألقمناها أفواههم".
ذهب أغلقت عليه الخزنة
انه اليوم الذي يوصف في الاستخبارات العسكرية بأن المعلومات التي قادت إلى عملية "الذهب"، الاستخبارات شخصت القاذفات ومخازن الصواريخ ومقرات القيادة، وفي الواقع كشفت تمامًا هذه المنظومة، الجيش الإسرائيلي وسلاح جوّه حولا المعلومات إلى خطة تنفيذية في كتاب "بيت العنكبوت" يشير عاموس هرئيل وآفي يسسخروف إلى انه في الجيش الإسرائيلي وزعت نسخ عن الخطة السرية لقصف الصواريخ تضمنت 278 هدفًا"، ليمور وشيلح كتبا ان "ملفات العملية كانت جاهزة منذ يوليو 2005".
نوعام هو الآخر يعمل اليوم في مجال الهايتك، وكان حينها طيارًا حربيًا نظاميًا يحكي لنا انهم في سلاح الجو تدربوا عدة سنوات على الخطة، ولكنهم لم يعرفوا ما هي الأهداف، "أي انهم تحدثوا إلينا عن الخطة ولكن ليس عن مكان الأهداف، كرجل طاقم جوي تفهم انه يخطط هنا لأمر عظيم، كلما أخفوا عنك أكثر يكون من الواضح لديك انها عملية كبرى وتريد ان تكون جزءًا منها".
في كل مكتب قائد طيران في سلاح الجو توجد خزنة كبيرة بداخلها ملفات سرية، في الاستخبارات العسكرية ارتبكوا إلى أي حد وكيف ينقلون إلى سلاح الجو المعلومات التي جمعوها، وفي نهاية الأمر علم فقط قادة الطيران والكبار من بينهم أي ذهب أغلقت عليه الخزنة.
نوعام: "من جهتي لم يكن هناك وضع لا أشارك فيه في هذه الطلعة، لو ان الحرب اندلعت بعدها بعدة سنوات كنت لأطيل عكازي، إلى هذا الحد"، أقوال مشابهة قالها عميت، وهو طيار حربي في سلاح الجو "عندما اندلعت الحرب كان واضحًا بالنسبة لي ان هذه العملية خرجت حيز التنفيذ، وعندما علمت انني في الداخل قلت لنفسي: ها هم قد أنفقوا عليك الأموال والآن واجبك أن توفر البضاعة".
كانت العملية شديدة الأهمية، بحيث انه وبعد تقليص الميزانية الأمنية حافظت المنظومة على الميزانية القديمة لتمويل التدريبات والخطة، ملاحو سلاح الجو تدربوا بشكل منتظم على نموذج لبناني أنشئ جنوبي البلاد، "كل ما بقي لنعمله هو الهجوم" يقول نوعام، "حرر الكبسة فقط وقل سلام. المهم هو أن تضع القنبلة في المكان المقصود".
بعد اختطاف المغفور لهما ايهود غولدفاسر وإلداد ريغف في لبنان انعقدت جلسة طارئة للحكومة والكابينت، بعد ساعات من المناقشات تقرر ان تخرج خطة عملية "الثقل النوعي" إلى حيز التنفيذ، إلى جانب تصريح هجوم جوي واسع لأهداف أخرى، والملفات السرية أخرجت من الخزنات. وزير الأمن في حينها عمير بيرتس أعطى الأمر بالانطلاق على خلاف رأي مسؤولي الجيش.
في سلاح الجو قدروا انه سيقتل في الهجوم مئات المواطنين اللبنانيين، مما جعل الجنرال احتياط اليعازر شكيدي - الذي كان حينها قائد سلاح الجو - يرسل برقية إلى جميع قادة القواعد الجوية والطلعات الحربية، فصّل شكيدي في رسالته الاعتبارات التي قادت إلى قرار مصادقة العملية، "لم أتلقّ إطلاقا قبلها برقية من سلاح الجو قبل تنفيذ مهمة، لقد كان الشعور انها عمليتنا المركزية" كتب اللفتنانت كولنيل أوري في يوميات الحرب، والذي كان حينها قائد سرب الطيران "فرسان الشمال".
يحكي نوعام انه بعد صدور الأمر "قائد السرب جمعهم كلهم وقال لهم: انسوا عناقيد الغضب والعمليات الأخرى سادتي، نتحد ث هذه المرة عن حرب"، كان واضحًا انه بسبب هذا الوضع فإننا نذهب في حكاية مختلفة بالكلية، الجنرال نيل بركان - والذي كان حينها قائد سرب - قال "بعد ان سمعنا عن حادثة الاختطاف ذخرت الطائرات وفتحنا المرابض، وعمليًا فقد دخلنا إلى مرحلة مضاعفة الاستعداد، ولم نسمها بعد حربًا، ولكن كان واضحًا ان أمورًا ما بدأت تحدث".
عميت: "لقد راعني عندما رأيت عدد الناس في غرفة الارشادات، يوحي لك الأمر بأن الحكاية تختلف، هنا نأتي لنتعلم التنفيذ، نجلس متشبثين بدفة الملاحة، ونتوافق مع من يجب ونتفقد الذخيرة ومسالك الدخول إلى الهدف. لا مجال للخطأ، إذ ان الدخول غير الصحيح يمكن ان يعطب هذه الطائرة العملاقة كلها".
يضيف نوعام: "لقد كان الأمر مثل تدريب معقد، ولكن مع ثقل على الأكتاف، رغم انهم تحدثوا عن تهديدات وصواريخ محمولة كان واضحًا لنا انه لا أحد يشكل تهديدًا علينا حقًا، ففي النهاية المهم هو ان تسقط القنبلة في مكانها".
100 ألف صاروخ
في الليلة ما بين 12 - 13 من يوليو، حوالي الساعة الرابعة صباحًا؛ أقلعت حوالي 100 طائرة من سلاح الجو المختلفة، "تخرج من غرفة الارشادات وترتدي هناك البزة وتنظر إلى الخوذة وتمضي إلى عصفورك، انظر إلى الحمولة تحت المنحنى، اضرب بخفة لأرى انها مثبتة جيدًا، أوقع على الطائرة وأضع الحزام" يقول عميت.
في مكان آخر تحرك نوعام بطائرة محملة بقنابلها إلى مدرج الطيران، "المشهد مدهش" يقول "تشاهد جميع الطائرات وترى القوة، وكل شيء يحدث، وكأنه خيال. أذكر انني حلقت في الجو وتخيلت ان جميع الطائرات أقلعت، في لحظة وجود إذًا بالتحليق، وعندما تحلق في الجو أنت حينها روبوت تركز على المدرج وعلى مكانك، ولكن كانت لحظة حيث أخرجت رأسي من الكشك لأشاهد ما يحدث في الخارج، إنه مقطع من الذهول ما يوشك ان يحدث هنا".
يتذكر عميت لحظة انفصال قنابله الذكية عن الـ F16 وسقوطها بصمت داخل غرفة ما في منزل ما فيه قاذفة ما. "يجب ان تكون في الجو لتفهم المشهد، انها الحرب، لكن مفعول جميع هذه القنابل مخيف جدًا، الكشك نفسه هادئ لكنك ترى الانفجار منذ لحظة خروجه وتشعر بالقوة". يقص نوعام "تشخص إصابة الهدف وتنطلق هتافات الفرحة في الكشك، من اللحظات السعيدة انها طائرة طيار ما، إذن يمكن ان تقوم بأشياء وأن تصرخ".
بانتهاء 34 دقيقة من الهجوم دمرت فيها 59 قاذفة أو 44 حسب التحقيقات التي تمت بعد العملية. حسب أقوال دورون الفجوة في الأرقام نابعة من ان "عددًا من القاذفات قد دمرت في الأيام التي تلت العملية"، على خلاف التقديرات السابقة التي تحدثت عن 200 قتيل وحوالي 700 جريح في العملية؛ لم يقتل سوى 20 لبنانيًا.
عملية "الثقل النوعي" كانت استعراضًا لقوة الجيش الإسرائيلي، مثيرة للأجهزة الأمنية ولمجمل الوحدات والأقسام، وضربة ماحقة أثبتت انه بالإمكان التسلل إلى أوكار حزب الله المغلقة. "تلقي الصواريخ في أنحاء البلاد كان ليكون شيئًا آخر تمامًا، وعدد الاصابات كان ليكون أكبر، ومن الوجهة التقديرية أيضًا فإن هذه الطلعة لها انعكاسات كثيرة على استمرار عمليات سلاح الجو في السنوات ما بعد الحرب" يقول الجنرال نير بركان بعد العملية.
أطلس للدراسات