على غير عادته في دوراته السابقة، فقد ركزت نقاشات وندوات وخطابات مؤتمر هرتسيليا لدراسة وتعزيز المناعة القومية - الذي انطلقت أعماله ما بين 14-16 حزيران الجاري من بيت الرئيس ريفلين، واستمر لثلاثة أيام متتالية - على التحديات الداخلية التي تواجه الدولة والمجتمع الإسرائيلي، والتي تواجه بناء هوية إسرائيلية جديدة في دولة إسرائيل اليهودية الديموقراطية.
ورغم ثبات شعار المؤتمر العام (ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي) الذي تبناه منذ مؤتمره الأول؛ إلا ان كل دورة سنوية تحمل شعارًا جديدًا له علاقة بطبيعة التحديات التي ينبغي التركيز عليها، على اعتبار اختلاف وتنوع مركبات الأمن القومي الإسرائيلي، من تهديدات أمنية خارجية وسياسية وديموغرافية وداخلية، اقتصادية واجتماعية وهوياتية ودينية وديموقراطية، وفي نسخته السادسة عشر عقد تحت شعار (أمل إسرائيلي: رؤيا أم حلم) وهو شعار اشتق من مضمون خطاب الرئيس ريفلين في افتتاحه للمؤتمر السابق الخامس عشر.
وشكلت رؤية الرئيس ريفلين هاديًا وبوصلة للمؤتمر السادس عشر، واكتسبت الرؤية التي تركز على الهوية الإسرائيلية الجديدة قيمة كبيرة وأجواءً مؤاتية، لا سيما في ظل تصاعد حدة النقاشات والسجالات والانقسامات الإسرائيلية المجتمعية والسياسية حول قضايا داخلية لها علاقة بهوية المجتمع الإسرائيلي والتحديات الديموقراطية، وذلك على خلفية تعاظم النقاش والاستقطاب الذي تصاعد في أعقاب قضية الجندي قاتل الشهيد الشريف وخطاب نائب رئيس الأركان يائير غولان في ذكرى المحرقة والحديث المتعاظم عن مظاهر تغلغل الفاشية داخل المجتمع الإسرائيلي.
وقد ركزت جلسة الافتتاح - التي افتتحها الرئيس ريفيلن وما تلاها من خطابات وندوات - على تشكيل هوية إسرائيلية مشتركة جامعة، بحيث تترجم ما أطلق علية ريفلين "القبائل الأربعة" المشكلة للمجتمع الإسرائيلي، والتي تعيش ما بينها حالة من الصراع الذي ينطوي على تهديد لهوية إسرائيل اليهودية الديموقراطية، وهي بحسب ريفلين تتكون من العلمانيين والمتدينين الأصوليين والمتدينين القوميين والعرب. ودعا ريفلين إلى بناء ما أسماه بالهوية المشتركة تحت السقف الإسرائيلي من خلال ضمان الهوية الاثنية لكل مركب، مع ضرورة أن يتحمل الشقان غير الصهيونيان في المعادلة الإسرائيلية (المتدينون الأصوليون والعرب) المشاركة في تحمل العبء القومي للدولة وضمان المساواة التامة في إسرائيل اليهودية والديمقراطية.
كما ركز أهم متحدثين على مستوى الشخصيات السياسية (ايهود باراك وموشيه يعلون) على التحديات والمخاطر الداخلية على النظام السياسي الإسرائيلي الناتجة عن سياسات الحكومة برئاسة نتنياهو، بما في ذلك توظيف إثارة الذعر والمخاوف من تهديدات ليس حقيقية، وبما ينطوي علية الأمر من تشكيل مخاطر تتهدد الديموقراطية عبر تعزيز مظاهر الفاشية.
يعلون اعتبر ان إسرائيل اليوم لا تعاني من أي تهديد وجودي، وأثنى على الاتفاق النووي مع إيران، وأكد أنها قوية بما يكفي لمواجهة أي تهديدات محتملة. وقد كان خطاب باراك ملفتًا في قوته وجرأته وصراحته، حيث لأول مرة يكشف فيها علنًا الأجندة السرية لنتنياهو وحكومته، والتي أسماها بالأجندة الماكرة والمخادعة التي تستخدم حيل التشويش للخداع والتضليل، أجندة استمرار الضم والاستيطان واستمرار الاحتلال وفرض أمر واقع جديد يمنع أية تسوية وانفصال عن الفلسطينيين، بما يهدد - على حد قوله - بقيام دولة أبرتهايد أو دولة كل مواطنيها يتحول فيها اليهود مستقبلًا إلى أقلية. واعتبر سياسات نتنياهو هي الأخطر على استمرار إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية مزدهرة ومتطورة، وطالب بإسقاط نتنياهو عبر الاحتجاجات الشعبية.
من جهة أخرى، اعتبر ان إسرائيل على المستوى الأمني والاقتصادي والتقني والعلمي قوية بما يكفي لمواجهة كل التحديات، وأنها باتت اليوم في مقدمة دول العالم المتقدم على كل المستويات، وقال "لا يوجد شيء يستطيع السويسريون أو الدنماركيون أو الصينيون القيام به ولا نستطيع نحن أن نقوم به بنفس المستوى، إن لم يكن بأفضل منه"، لكنه أضاف ان التحدي الديبلوماسي هو الأخطر بسبب سياسات نتنياهو.
على المستوى الأمني
صحيح ان التحديات الداخلية الإسرائيلية حظيت بجل الاهتمام، لكن التحديات الأمنية كانت حاضرة بشكل ملموس، وتحديدًا عبر خطاب قائد سلاح الجو أمير ايشل الذي تحدث عن حروب الغد ودور منظومات السايبر والأسلحة الالكترونية والتزود بطائرات الشبح (F35) التي تقفز بالأعمال الحربية الجوية إلى مراحل نوعية، وقد عقدت ندوة بمشاركة أمنية دولية وإسرائيلية تحت عنوان "حروب الغد".
كما تحدث مسؤول الاستخبارات هرتسي هليفي عن المخاطر الأمنية، وحضر التهديد الأمني في افتتاحية المؤتمر عبر جلسة محاكاة تمثيلية تحت عنوان (الشرق الأوسط: ما بعد سقوط "الدولة الاسلامية - داعش") شارك فيها الكثير من المتخصصين من جنسيات مختلفة. مسؤول الاستخبارات هليفي أكد في خطابه ان إسرائيل هي الدولة الأقوى عسكريًا في الشرق الأوسط، لكنها لم تعد تواجه جيوشًا نظامية، بل منظمات إرهابية، الأمر الذي يجعل إحراز انتصار أمامها أمرًا أكثر تعقيدًا.
ووصف هليفي حزب الله اللبناني بأنه أكثر هذه التنظيمات تهديدًا لأمن إسرائيل من حيث قدراته الصاروخية والقتالية، وقال ان الحرب القادمة مع حزب الله لن تكون سهلة، لكن إسرائيل حسنت قدراتها في مواجهة الحزب، مؤكدًا على ان "نصر الله لو يعرف قدراتنا والمعلومات التي لدينا ومدى استعدادنا فلن يخاطر بمواجهة جديدة مع إسرائيل، نحن سنعيد بناء ما ستدمره الحرب، لكن لبنان ستتحول إلى دولة لاجئين".
وحول الصراع في سوريا؛ توقع هليفي ألا تنعم سوريا بوحدة أراضيها تحت سلطة قائد واحد في السنوات القريبة، وقال "إن أسوأ نهاية ممكنة للصراع في سوريا بالنسبة لإسرائيل هي اندحار تنظيم الدولة الاسلامية وانحسار رقعة نفوذه وتأثيره وترك الدول العظمى للمنطقة وبقاء المحور الراديكالي المتمثل بإيران وحزب الله".
استراتيجية إسرائيل في مواجهة حماس
قال هليفي ان استراتيجية إسرائيل في مواجهة حماس تستند إلى ثلاثة أسس: إبقاء حماس في حالة ردع، وتقليص قدرتها على تطوير قدراتها القتالية، والعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية المزرية في قطاع غزة؛ حتى يكون للفلسطينيين ما يخسرونه في أي مواجهة مقبلة، مشيرًا إلى ان حماس لا ترغب بمواجهة في الوقت الراهن.
استراتيجية السلطة
وأشار هليفي إلى أن الرئيس الفلسطيني ما زال متمسكًا بالتنسيق الأمني مع إسرائيل ورفض الصراع المسلح، وفي نفس الوقت يسعى إلى تدويل القضية الفلسطينية. وبخصوص الهبة الفلسطينية أشار هليفي إلى تراجعها قائلًا انها أصبحت في إطار الأعمال الفردية غير المؤطرة فصائليًا، وأن الشارع الفلسطيني لم ينجر وراءها، حسبما قال.
تهديد الـ "بي دي اس"
تناول وزير الأمن الداخلي جلعاد أردان عبر خطابه في المؤتمر مخاطر وتحديات حركة مقاطعة إسرائيل المعروفة بـ "بي دي اس" وسبل واستراتيجيات مواجهتها، وفي بداية مداخلته شنّ هجومًا حادًا عليها باعتبارها حركة لعزل إسرائيل ونبذها وتشويهها وإساءة سمعتها، واعتبرها تندرج في إطار الكراهية اللاسامية لليهود ولإسرائيل، وأشار إلى أن رواجها له علاقة بانتشار خطاب حقوق الانسان وظهور الشبكات الاجتماعية وانتشار التكنولوجيا، بالإضافة لسياسة الرئيس عباس في رفض العودة للمفاوضات. ولخص استراتيجية إسرائيل في مواجهة الـ "بي دي اس" في أربعة خطوات:
الخطوة الأولى: جمع المعلومات الاستخبارية عن الجماعات والحركات الناشطة في مجال المقاطعة، وجمع المعلومات عن الفعاليات والأنشطة وتاريخها ليتسنى التصدي لها واحباطها.
الخطوة الثانية: الردع، أي ان كل مشارك (شخصًا كان أو حركة) في مقاطعة إسرائيل سيدفع الثمن.
الخطوة الثالثة: الهجوم وإشغال هذه الحركات بالدفاع عن أنفسهم ومصادر تمويلهم.
الخطوة الرابعة: التركيز على مجال الدعاية والتسويق الإعلامي لتحسين صورة إسرائيل أمام الرأي العام.
حضور عربي واسع
تميز المؤتمر الـ 16 بحضور عربي واسع، وكأنه يعكس أجواء تقارب عربي إسرائيلي، فقد شهد المؤتمر مشاركة الوزير الفلسطيني وعضو اللجنة التنفيذية لـ م. ت. ف أحمد المجدلاني كممثل للسلطة، والسفير الأردني في إسرائيل وليد عبيدات، والسفير المصري حازم خيرت، إضافة إلى الاقتصادي والأكاديمي الأردني رياض الخوري، والصحفي والمحلل الفلسطيني إلياس زنانيري، وسلمان الشيخ المدير السابق لمعهد بروكنجز في الدوحة، وعنان وهابي الأستاذ بجامعة حيفا، وأيمن عودة رئيس القائمة المشتركة بالكنيسيت الإسرائيلي، ويوسف زكانون الأستاذ بجامعة بيت لحم، ومن اليهود الداعمين للحق الفلسطيني مثل عالم الاجتماع سامي سموحة الأستاذ بجامعة حيفا، وآخرين.
ورغم أن الدورات السابقة للمؤتمر شهدت مشاركة عربية تمثلت في رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض، وولى العهد الأردني الأسبق الأمير حسن بن طلال؛ إلا أنها المرة الأولى التي يشهد فيها مؤتمر هرتسيليا الأمني الإسرائيلي مشاركة عربية واسعة، ما أثار علامات من الجدل والاستفهام في تطور العلاقة العربية الإسرائيلية رغم تجمدها على المستوى الفلسطيني الإسرائيلي، بما يعني وكأنه كسر للخطوط الحمراء.
ملحق
تصريحات من المؤتمر
هنري كسنغر: قدر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق خلال مؤتمر هرتسيليا أن مبادرة السلام الفرنسية لن تؤدي لتسوية إقليمية، "لديّ شكوك بشأن جدوى مؤتمر كهذا ونتائجه، من الأفضل التوصل لاتفاق مؤقت كبير، يحرز تقدمًا" قال كسنغر.
عاموس جلعاد: رئيس الهيئة السياسية - الأمنية في وزارة الجيش قدر أن التهديد الايراني يمكن ان يتحول لتهديد وجودي، وقال ان "الإيرانيين يفعلون كل ما بوسعهم لنقل سلاح لحزب الله"، مؤكدًا على أنه "يجب تفضيل أولويات الاستقرار على جلب الديمقراطية للشرق الأوسط".
مايك هاكبي: السياسي الأمريكي الجمهوري البارز، الذي تطلع لترشح الحزب للرئاسة، أعرب عن دعمه غير المشروط لموقف حكومة إسرائيل في خطابه لمعهد السياسة والاستراتيجية، وقال هاكبي "عندما يتم اتهام إسرائيل بقتل مواطنين فلسطينيين، من وجهة نظري هذه تهمة باطلة"، وأكد على أنه "لن يكون هناك حل للصراع طالما أن الجانب الآخر يحث على الكراهية".
يعلون: أعلن يعلون في مؤتمر هرتسيليا أنه سيترشح لرئاسة الحكومة "القيادة أصبحت مسحوبة وشعواء". في خطاب قوي له وجه وزير الجيش السابق انتقادًا لاذعًا للحكومة التي كان عضوًا فيها من وقت قريب. "ما يسرق النوم من عينيّ هو تلك التشققات في المجتمع الإسرائيلي، التآكل المنهجي في القيم الأساسية، المحاولة للإضرار بجنود الجيش الإسرائيلي، قياداته، وقيمه بصورة تُشكل خطرًا على حصانته".
حازم خيرت: سفير مصر في إسرائيل في مؤتمر هرتسيليا رحب بالمبادرة الفرنسية. في خطابٍ أول في إسرائيل، طالب خيرت باستئناف عملية السلام ونزع أسلحة الدمار الشامل من الشرق الاوسط. سفير الأردن في إسرائيل أكد على أن "مبادرة السلام العربية هي المبادرة الرئيسية لسلام إقليمي".
الوزير كاتس: وزير المواصلات والاستخبارات قال في مؤتمر هرتسيليا أن "حرب لبنان ستؤدي بالتأكيد للتخلص من نصر الله وستجلب الخراب للبنان". وهدد بأن لبنان وحزب الله سيدفعون ثمنًا باهظًا في حال وقوع حرب، "إسرائيل ستضطر للعمل بقوة شديدة ضد جهات إطلاق النار وأهداف في لبنان كلها من أجل تقصير مدة القتال".
دوري غولد: المدير العام لوزارة الخارجية أكد في مؤتمر هرتسيليا على أن إسرائيل تقيم علاقات سرية مع دول عربية معتدلة، "من تحت الجليد يسكبون كثيرًا من الماء الساخن" قال غولد.
يائير لبيد: رئيس حزب "يوجد مستقبل" هاجم نتنياهو في مؤتمر هرتسيليا "لا يمكن المكوث منذ 1996 وانتظار مرور الوقت فقط"، وطالب لبيد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بالاستقالة، "من غير مستعد وغير قادر على العمل لصالح الرؤية، عليه أن يذهب للبيت. لا يمكن الجلوس من 1996 وانتظار مرور الوقت فقط".
أرييه درعي: وزير الداخلية أوضح في مؤتمر هرتسيليا أنه غير مستعد للتهاون في قضية رامي سادن، "غير مسموح لنا التسليم وقبول خطاب الكراهية والعنصرية، الحياة والموت بيد اللسان".
اطلس للدراسات