تعاني حركتا «فتح» و»حماس» من أزمات عميقة تشكل حافزاً لكليهما للسعي من أجل المصالحة وتوحيد الوطن.
لكن كل حديث عن المصالحة يبدو ضرباً من الوهم ما لم يتم التوافق مسبقاً على برنامج سياسي يتوحد الجميع خلفه، ويتم من أجله تقديم التنازلات الضرورية على الأصعدة الإدارية والمالية والأمنية.
عناوين أزمة حركة فتح عديدة: أولها فشل خيارها التفاوضي وغياب البديل لهذا الخيار.
غياب البديل أسبابه عديدة، إذا استثنينا أيديولوجية رأس هرم الحركة الذي يؤمن بالمفاوضات كآلية وحيدة لحل الصراع، فإن الأسباب الأخرى لا تقل عنها أهمية: منها أن الحركة وبصفتها التنظيم القائد للسلطة الفلسطينية مسؤولة عن توفير مليارات الدولارات للصرف على أكثر من مائة وخمسين ألف موظف مدني وأمني، وهؤلاء لن يتمكنوا من الحصول على مرتباتهم إن قررت حركة فتح أن بديل المفاوضات هو الانتفاضة الشعبية مثلاً.
ومنها مخاوف عدم إمكانية ضبط أي تحرك شعبي ـ سلمي ضد الاحتلال على طريقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، بمعنى مخاطر انزلاقها لأعمال عسكرية على طريقة الانتفاضة الثانية ما سيتسبب في إضعاف الموقف الفلسطيني السياسي ومحاصرة السلطة دولياً.
ثاني أزمات حركة فتح تنظيمية. لا يوجد للآن مثلاً وضوح في مسألة من سيخلف الرئيس أبومازن في قيادة الحركة. صحيح أن للحركة مؤسسات يمكنها اتخاذ قرارات لملء أي فراغ محتمل، لكن الصحيح أيضاً أن الحركة تواجه أيضاً ضغوطاً من قوى إقليمية ترغب بأن يكون لها دور في تحديد هذا البديل لأن الشخصية التي ستخلف أبومازن هي مؤشر على طبيعة الخط السياسي للحركة ـ الاستمرار على نفس النهج السياسي الحالي، أو تغيره.
المرشحون المحتملون لخلافة الرئيس أكثر من أصابع اليد، وإذا استثنينا مروان البرغوثي منهم، فإن توجهاتهم السياسية قريبة من بعضها ولا تبتعد عن توجهات القيادة الحالية.
على الرغم من ذلك، وجود العديد من المرشحين هو مؤشر على اصطفافات تنظيمية داخل الحركة لا علاقة لها بصراع على برنامج سياسي.
ثالث أزمات حركة فتح هو اندماجها كلياً في السلطة.
عندما يرفض نشطاء حركة فتح قانون الضمان الاجتماعي أو الطريقة التي تعاملت بها الحكومة مع إضراب المعلمين، أو مشاركة السلطة في مؤتمر هرتسيليا، فإنهم يؤكدون تمايزهم عن الحكومة، لكن ذلك لا يعني أن مجموع الناس يعتقد بأن هناك فارقا بين السلطة وحركة فتح، لأن الأخيرة هي من يعين الحكومة، ولأن أغلب مدرائها العامين من الحركة، ولأن توجهات الحكومة وسياساتها مدعومة من قيادة السلطة. هذا الاندماج بين الحركة والسلطة هو من أهم أسباب تدني شعبية الحركة التي كشفتها مثلاً الانتخابات الطلابية في جامعة بيرزيت، وهو ما كشفته ظاهرة العمليات الفردية في الضفة التي تنأى بنفسها عن التنظيمات الفلسطينية عامة.
في المقابل تعاني حركة حماس من أزمات خانقة. هي أولاً، سلطة مسؤولة عن إدارة حياة أكثر من 1.5 مليون فلسطيني في غزة محاصرين منذ عشر سنوات، بانعدام مصادر دخل حقيقية، وعدم القدرة على الحركة، وبسبب الحروب الأربع التي أنهكت القطاع، فإن سلطتها في غزة متماسكة إلى الآن بفضل قبضتها الحديدية الأمنية وليس بسبب شعبيتها. التنازلات التي قدمتها الحركة، مثل قبول عودة السلطة لمعبر رفح، أو الموافقة على إنشاء مطار أو ميناء بحري بنفس شروط اتفاق أوسلو يعكس فقط حجم الأزمة التي تعاني منها لأن هذه المعابر كانت موجودة قبل انفرادها بالسيطرة على القطاع وكانت تعتبرها جزءا من اتفاقات سياسية ترفضها، لكنها اليوم أصبحت من مطالبها الأساسية.
«حماس» أيضاً تعاني من شحة الدعم المالي والسياسي. عندما يقول موسى أبو مرزوق إن الدعم المالي والعسكري الذي كانت تقدمه إيران للحركه يفوق أي دعم تلقته الحركة من أية جهه أخرى وأنه كان دعماً من فوق الطاولة وليس من تحتها، فإن الرجل يقول صراحة إن انحياز حركته للدول الداعمة للمعارضة السورية قد تسبب لها بخسارة كبيرة لم تتمكن الحركة من تعويضها، لا الأموال التي حصلت عليها من قطر كافية، ولا قدمت لها السعودية أموالاً مقابل موقفها المؤيد لعاصفة الحزم، ولا الإمارات غيرت من عدائها لها.
سياسياً وقوفها مع السعودية بما للأخيرة من تأثير على مصر، لم يوفر لها حتى حرية حركة على معبر رفح.
أما تركيا التي توقعت حماس منها الكثير، فهي تفاوض إسرائيل على تطبيع علاقاتها معها.
أما تنظيمياً، فإن حماس، مثل فتح، تعاني من ضغوط إقليمية تهدف إلى الإبقاء على قيادتها المركزية، أو على الأقل عنوانها ـ رئيس مكتبها السياسي في الخارج حتى يسهل التأثير عليه.
من المعروف أن قطر وتركيا دعمتا اختيار مشعل قبل أربع سنوات وهو من قرر الخروج من سورية.
اليوم مشعل لا يريد البقاء رئيساً للحركة لفترة خامسة، ولا أحد يستطيع الجزم إن كان السبب له علاقة بالنظام الداخلي للحركة الذي لا يمكنه من رئاسة المكتب السياسي أكثر من فترتين متتاليتين، أو أن الرجل شعر بحجم الخديعة التي تعرض لها من المحور الذي تحالف معه ويريد أن يحتمي بالنظام الداخلي حتى يتخلص من ضغوط الخارج على حركته.
في جميع الأحوال إذا اختارت حماس رئيس مكتبها السياسي من القطاع فإن هذا سيكون مؤشرا على رغبتها في تحصين استقلالها التنظيمي عن ضغوط الخارج، لكنها بالتأكيد تعاني اليوم من إشكالية الضغوط الخارجية عليها.
أزمات «فتح» و»حماس» تشكل روافع للوحدة الوطنية إذا ما كانت عيون الحركتين على فلسطين.
للطرفين مصلحة في الإبقاء على استقلالية القرار الوطني، وتوفير الدعم المالي والسياسي لقضيتهما.
لكن هذه الأزمات لا تكفي وحدها لدفعهما لتقديم التنازلات الضرورية للوحدة لأن جوهر الخلاف بينهما سياسي: طرف يدعي بأن إستراتيجيته مبنية على المقاومة، وآخر يعتقد بأن الطريق الوحيد الممكن لإنهاء الاحتلال هو المفاوضات.
لكلا الخيارين استحقاقات تتعارض بالمطلق مع بعضهما البعض، وبالتالي استحالة قبول أي طرف بما يريده الطرف الآخر.
المقاومة تتطلب المزيد من السلاح، واتفاقات أوسلو فرضت على السلطة الاحتفاظ بالقليل منه وعدم استعماله.
يوجد بالطبع حلول وسط، مثلاً: ليس من الضروري أن تكون المقاومة مسلحة. يمكن الاتفاق على شروط للتفاوض.
يمكن ربط التنسيق الأمني بقبول إسرائيل بمبدأ الانسحاب وجدول زمني له. يمكن الادعاء بأن «أوسلو لم يعد يلزمنا».
لا تعنيني التفاصيل هنا، لكن دون الحوار للاتفاق على برنامج سياسي وعلى آليات تحقيقه لن تجد «فتح» أو «حماس» حوافز لتقديم تنازلات في الملفات الأخرى ذات الأبعاد الإدارية والمالية والأمنية: مثلاً، لماذا ستوافق فتح على دفع مرتبات أجهزة أمنية في غزة ليست لها علاقة بها؟ ولماذا ستوافق حماس على تأييد سلطة في الضفة تغلق جمعياتها الخيرية؟.
كلا الطرفين يعلمان ذلك ولكنه لا يمنعهما من اللقاء في الدوحة أو القاهرة والحوار لأنه يوفر لكليهما الادعاء أمام الجمهور الفلسطيني بأن الطرف الآخر هو الذي يرفض الالتزام بما تم الاتفاق عليه.
لكن الحقيقة أن جوهر المشكلة بين الطرفين سياسي وما لم يتم حسم هذه المسألة بصدق وقناعة ومسؤولية، فإن الوحدة لا يمكن تحقيقها حتى لو تم الاتفاق على حكومة وانتخابات تشريعية ورئاسية.


