لن يتوقف العالم إذاً، وسواء كنا في عصور الامبراطوريات ونشوء الأديان القديمة التوحيدية، او زمن الإقطاع او الرأسمالية اليوم، وعدوتها بالأمس القريب الاشتراكية، عن القيام بفرز هذه الثنائية القطبية بين أخيار وأشرار كما في الفلسفة، ويمين ويسار في السياسة، وموحدين ومشركين، وآسياد وعبيد، وإقطاعيين واقنان، وبرجوازيين وكادحين الى آخره.
وفي الطبعة الأخيرة هاكم هو الانقسام العالمي بين المعسكرين ولكن بصورة غير معلنة او دونما تنظير أيديولوجي: بين مجانين مهرجين ومعتوهين سفهاء سياسيين ومرضى بكراهية الآخرين، يؤمنون فقط بالحديد والنار كوسيلة وحيدة لمواجهة الآخر. وبين واقعيين عقلاء على المقلب المقابل يؤمنون بالشراكة والتفاهم مع الآخرين ومحدودية القوة، وهم الذين يمكن تسميتهم بالمعتدلين والأكثر رشدا وحكمة في الممارسة السياسية.
هذه لحظة أخرى في التناقض او الاستقطاب والفرز الحاد بين خطابين، خطاب مليء بالكراهية والنظرة العنصرية، بيض وسود أحرار وبرابرة ومفعم بالتعصب والانغلاق على الذات، يؤمن بالتفوق العرقي واللون. وخطاب عاقل ومنفتح يؤمن بالتعددية والانفتاح وان الله هو اله واحد للجميع، ولا يحكم على دين بأكمله يؤمن به اكثر من مليار من البشر بوصمه بالإرهاب.
هل نعرف الآن من يمثلون الاتجاه او المعسكر الأول ومن يمثلون المعسكر الثاني؟ والراهن او الحادث والشاهد انهم معروفون. ولعلنا الأسبوع الماضي كنا شهودا على سلسلة من الأحداث المتواترة والتي أبانت عن هذه الذروة النادرة، وربما غير المتوقعة في الكشف عن تصعيد هذا الاستقطاب وتفجره في العلن. ولقد كان هذا سجالا غير مألوف يتجاوز النمطية حين بدا العالم وقد اختزل بالفعل الى قرية صغيرة أشبه بمواجهة فريق مقابل فريق آخر، في التفاعل مع حدثين كبيرين كما لو انهما يحدثان في ساحة إستاد ملعب رياضي كبير على امتداد الكرة الأرضية، ولكنهما هزا العالم برمته.
ان الحدث الأول الذي استأثر بعاطفة العالم كان يوم الجمعة الماضية بمشهد الجنازة الحاشدة والمهيبة في وداع البطل والأسطورة الإنسان محمد علي، وكانت تلك خطابات تليق بسيرة الرجل والذي وحد العالم في ارثه وتركته حتى في مماته، مسلمين ومسيحيين ويهودا وحتى بوذيين وملحدين، وبدا العالم كأنه في لحظة من أبهى شروق انتصاره وتفوقه على ذاته، على تطرفه وإرهابه وعنصريته وشروره.
لقد انتصر الأخيار والفقراء والمظلومون العقلاء والمعتدلون، ولكن وآسفاه بعد بضعة أيام، أي يومين او ثلاثة جاء الانقلاب عقاب هيرا آلهة الشر القديمة في العملية الإرهابية في ذلك النادي او الملهى الليلي في اورلاندو، لكيما ينهض من كان على رؤوسهم الطير دونالد ترامب، ليقول شامتا وفرحا ومنتصرا «الم نقل لكم؟» وهنا كان رجل آخر من صفوف هذا المعسكر لم يستطع هو الآخر ان يخفي فرحته، وهو أيضا لم يتوقف مرة واحدة عن ترداد عبارة الإرهاب الإسلامي، وهذا الرجل هو بنيامين نتنياهو لقد وضحت الرؤية.
خطابان نادران في تناقضهما، وتناقضهما ذلك الذي صدر على نحو مفارق في غضون هذه الأيام الأخيرة، على ما يفترض انهما حليفان يتحدثان بلسان مشترك. الخطاب الأول صدر عن الرئيس الأميركي باراك أوباما ليمثل ردا قويا وشجاعا وشديد العقلانية بالطبع على هذا المهرج والمرشح للرئاسة ترامب، بعد حادثة الاعتداء المشار إليها في اورلاندو. اما الخطاب الثاني فهو ما استمعنا إليه على لسان هذا الخليط من المتحدثين الإسرائيليين بعد إقرار ما يسمى بقانون الإرهاب، وكلا الخطابين يعكس في روحه ومضمونه كل هذه الانحيازات في التماهي والتعبير عن هذا الاستقطاب او الاصطفاف العالمي الجديد بين عقلاء ومجانين، أذكياء وأغبياء.
قال الرئيس الأميركي: كيف يراد لنا ان نصم دينا يعد واحدا من اعظم الأديان السماوية، كله هكذا بالإرهاب؟ ولم يخف الرجل غضبه وحنقه وأضاف بطريقة تعليمية: وما الذي يغير من الحقيقة إذا قلنا انه إسلام راديكالي أي متطرفا او أصوليا؟. ان دعوتكم أيها الحمقى إنما تصب في خدمة وتغذية هذه القلة التي تحاول اختطاف دينا يمثل اكثر من مليار نسمة عندما يصورون للشباب المسلم ان الغرب هو ضد الإسلام ومعاد للمسلمين جميعا. والنتيجة انهم ينتصرون باستقطاب الشباب المسلم ونكون وحدنا الخاسرين، فهل هذه استراتيجية ناضجة في مكافحة الإرهاب والتطرف؟.
سموه، إذاً، كيف شئتم، إرهابا خارجيا او إرهابا وجريمة داخلية لا يهم، لأن هذا هو المهم ان سهولة الحصول على السلاح من داخل أميركا إنما هو التحدي الذي يواجهنا، وهذه هي الحقائق المفزعة: تمثل عمليات وجرائم القتل او الإرهاب الداخلي بأيدي مواطنين أميركيين، نسبة 94%. وقتل منذ العام 2001 حتى العام 2013 نحو 400 ألف أميركي، بيد هذا الإرهاب الأميركي الداخلي أي غير الموجه من قبل جماعات إسلامية متطرفة، فكيف لا تقام الدنيا ولا تقعد هنا إذا كان من قتلوا في المدة نفسها على يد إرهابيين من الخارج يبلغ ثلاثة آلاف فقط.
وبالمحصلة فإن عدد سكان الولايات المتحدة الذي يبلغ 5% من عدد سكان العالم يحصد ما نسبته 33% من حجم الإرهاب الذي يضرب العالم، وهذا يعني ان الإرهاب الداخلي الناشئ عن سهولة شراء السلاح هو الكارثة والمصيبة التي تحصد أرواح الأميركيين، وعليه فإن السؤال هو لماذا حرفت الأنظار بوصم دين بأكمله بالإرهاب، بينما الإرهاب الداخلي وهو الأكثر فتكا يتم الصمت عليه؟ وهل تريدون ان تعلموننا كيف نحارب هذا الإرهاب الخارجي الذي كان قد تسبب به وغذاه احمق آخر هو جورج بوش الابن، في مغامراته المجنونة والتي لم نخرج منها والعالم حتى الآن في العراق وأفغانستان؟.
ان القاسم المشترك بين جميع تلك الخطابات الصادرة عن الكراهية في كل الأزمان والعصور، وهي بالمناسبة تعتبر جزءا من الدعايات السوداء إنما في قلبها للحقائق والكذب الفاضح والافتراء على الحقائق ونزوعها نحو التهريج والديماغوجية وانعدام الاستقامة الفكرية والسياسية.
وهاكم أقوال وزيرة العدل الإسرائيلية السيدة شاكيت عن قانون الإرهاب، ونعلم الآن من يوم الأربعاء الماضي بالتصويت على هذا القانون في الكنيست، ان الإرهاب قد تلقى الضربة القاضية وتم دحره وهزيمته، وان إسرائيل بهذا القانون المدهش للعالم أصبحت منذ الآن رأس الحربة العالمية في هذه الحرب على الإرهاب. وقال آخر مشيدا بعبقرية وإبداع من صاغوا هذا القانون الفريد من نوعه، وهو حقا كذلك انه يستغني عن ستين مادة من قوانين الطوارئ البريطانية.
هناك كلمة السر في خطاب الكراهية الصادر عن العنصري ترامب، الدعوة الى سجن واعتقال ومحاصرة المسلمين داخل الولايات المتحدة في «غيتوات» وفرض الطوق عليهم كما حدث خلال الحرب العالمية الثانية ضد الجالية اليابانية، ومنع المسلمين الآخرين حول العالم من دخول أميركا. وهنا يصمم الإسرائيلي الذي يواصل احتلال أراضي شعب آخر قانونا فريدا بل مرعبا على مقاس شعب بأكمله يتم وصمه بالإرهاب.
لدى الأميركيين العاديين هوس بالإيمان بالقروض، ولكنْ لدى الطبقة اليمينية المتطرفة الحاكمة في إسرائيل هوس من نوع آخر وهو في حالتنا معهم بالعقوبات ثم العقوبات ثم العقوبات. وقال نواب القائمة المشتركة ان هذا القانون العنصري انما هو موجه ضد الفلسطينيين جميعهم من دون استثناء.
ولكنّ صوتا شجاعا عاقلا وجريئا إنما يجدر ان نوجه له المديح هنا في مواجهته لهذا الهراء، ذلكم هو رئيس بلدية تل أبيب. قال الرجل قبل صدور قانون الإرهاب وكأنه يلقي بدلو ماء بارد على هذه الرؤوس الحامية بعد عملية تل أبيب: ماذا تنتظرون او تتوقعون من شعب تحت الاحتلال؟ ان الاحتلال أيها الحمقى هو المسؤول الأول عما جرى في تل أبيب.
والراهن ان هذا هو قانون الفشل وأوهام الاحتلال المريضة والقاتلة، فلو كانت العقوبات من أي نوع تردع الفلسطينيين عن مواصلة الكفاح الوطني واستقلالهم من اجل نيل حريتهم وإلقاء الاحتلال في مزبلة التاريخ، لكانت هذه العقوبات التي لا تحتملها الجبال من فظاعتها وهولها قد ردعتهم وفعلت فعلها في وعيهم من قبل، وكل ما عدا ذلك هو هراء. فالاحتلال هو المشكلة وإزالة الاحتلال هو الحل.
والأنكى من كل ذلك بالتلازم مع خطاب قانون الإرهاب، الحديث مجددا عن الاستعداد لحرب رابعة تشن على غزة تكون هذه المرة حاسمة وبالضربة القاضية، ولكن لنؤجل الحديث عن هذه المسألة الى وقت لاحق.
والآن هل نعرف ما هو الفارق في هذه الخاتمة الفاجعة لهذا الأسبوع في إطار الاستقطاب، بين السيدة النائبة البريطانية جو كولس المدافعة عن حقوق الإنسان واللاجئين والقضية الفلسطينية، المحترمة والنبيلة والتي تستحق ان نذرف الدمع عليها نحن الفلسطينيين، والتي قتلت فقط لأنها كانت تؤيد بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وحيث أنصار الكراهية لا يريدون ذلك. وبين السيدة شاكيت وزميلتها وزيرة الثقافة المعادية للفن والثقافة في حكومة هذه العصبة من المجانين في إسرائيل؟ وهل بقي إذاً الحل والمخرج من هذا الجنون كما هدد ايهود باراك بثورة شعبية في الشارع الإسرائيلي لإسقاطها؟ وهي دعوة نادرة لا سابقة لها ان صدرت في إسرائيل. لأجل إنقاذ إسرائيل حقا هذه المرة من جنونها.


