خبر : الخصوصية في ظل الوحدة: في سبيل تجاوز الشرذمة وتعريف مشروع وطني جامع (2 من 2) د. هنيدة غانم

الإثنين 13 يونيو 2016 10:11 ص / بتوقيت القدس +2GMT




المستوى السوسيولوجي- السياسي:
جينولوجيا الخصوصية، تطورها وتشكلها
كيف تمظهرت الخصوصية وما علاقتها بالتجزئة، وكيف أعادت تشكل الأنا الجمعية كذوات وكيف أثرت هذه التجزئة على تشكل السياسي؟ ما هي العلاقة بين التجزئة وتشكيل مفهوم الخصوصية وما هي ديناميتها والعوامل المؤثرة فيها؟
هل يمكن أن نفصل اليوم بين التجزئة والخصوصية؟ وكيف يمكن أن نعيد تشكيل الخصوصية لتتوافق مع الأنا الجمعية التي تحفظها الثقافة وترفدها؟
تعرف الخصوصية بأنها تفرد وتميز مجموعة معينة عن غيرها نتيجة تفاعلات مستمرة بين عوامل ومركبات بنيوية وذاتية. نتجت خصوصية الجماعات الفلسطينية في أماكنها المختلفة نتيجة التجزئة العنيفة بسبب النكبة ونتيجة الشروط والمحددات التاريخية وعلاقات القوة التي وجدت كل مجموعة نفسها متموضعة فيها بعد النكبة وأشكال تفاعل الجماعات معها، ما يعني أن الخصوصية نتاج دينامي وليس ثابتا وأنها تتشكل وفق الشرط التاريخي.
في هذا السياق مثلاً كان لتموضع الفلسطيني الزمكاني في الداخل في إسرائيل كدولة وفي فلسطين كوطن منكوب واختيار سبل المناورة في هذا الواقع المعقد أثر على تشكل خصوصية الداخل، لذا كان لا بد من التشابك مع الدولة ومؤسساتها المختلفة من أجل توفير احتياجات الوجود الأساسية والبقاء، فيما كان الذهاب للعمل السياسي في الحيز المتاح من قبل الدولة هو تدخل اختياري. تفاعل الأمرين شكل الخصوصية وأنتج ثقافة اليومي والسياسي والاقتصادي.
كذلك كان الأمر بالنسبة لخصوصية فلسطينيي الأردن ممن يحملون الجنسية الأردنية مع الفرق أنهم اعتبروا مواطنين متساوين في دولة عربية وكان بإمكانهم فعليا تقلد الوظائف التي يريدون، إضافة إلى ذلك شكل الخوف من شعار "الأردن الوطن البديل" وتزايده عاملا مهما لصياغة "خصوصية متوترة" للفلسطيني في الأردن تنعكس في تراكم مستمر لمشاعر متناقضة تجاه الهوية الوطنية وبين الرغبة في الاندماج والرغبة في التميز والحفاظ عليه.
إذا على خلاف "الخصوصية المتوترة" لفلسطينيي الأردن كان الفلسطيني في الداخل يقع في قلب وطنه في بنية سياسية تبلورت من خلال نقضها لحقه في الوطن أولاً وفي أن يكون شريكا كاملا في النظام السياسي وفي المواطنة ثانياً، في هذا الإطار كانت خصوصيته تنبني من خلال التقاطع بين مساعيه للاندماج الكامل في الحيز السياسي الذي يقصيه والبقاء في الوطن الذي يحتويه، لكن هذه الخصوصية ما كان لها أن تتشكل ككيان منفصل ومواز لولا وجود إقرار أساسي بحل الدولتين الذي هيمن سياسيا وتشكل منذ البداية وفق حدود القوة الإسرائيلية التي فرضتها إسرائيل وشكلت 78% من مساحة فلسطين بما فيها سكان المناطق التي كانت معدة لتكون ضمن الدولة العربية وفق قرار التقسيم، علما أن هذه الحدود تحولت إلى مرجعية فلسطينية غير مفكر فيها.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن الخصوصية تشكلت في المستوى السياسي وليس الشعبي لكنها انتقلت إليه لاحقا بتأثير أحداث تاريخية حاسمة وعلى رأسها النكسة.
ففي الفترة الممتدة بين 1948 وحتى 1967 وبالذات في العقد الأول للنكبة ورغم وجود قطيعة رسمية بين الجهتين إلا أن التواصل في المناطق المحاذية للحدود لم ينقطع، واستمرت علاقات التبادل التجاري من خلال التهريب والتخفي واستمر التواصل بين العائلات من خلال التسلل وبالخفاء وبالطرق غير المباشرة، بما في ذلك علاقات زواج. كل هذا مورس بالخفاء والتستر الكامل، وربما تكون هذه فترة حاسمة في إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني من حيث العلاقة مع السلطة والقوة، حيث طور فلسطينيو الداخل نوعا من أنواع "التقية الاجتماعية- قومية" أي ممارسة الحياة الاجتماعية التي اعتادوا على ممارستها قبل النكبة بالخفاء والتكتم خوفاً من السلطات وأعينها.

1967 بوصفه نقطة مفصلية
عام 1967، كان نقطة مفصلية في تاريخ تشكل العلاقة بين جانبي الخط الأخضر وبين الفلسطينيين في إسرائيل وفي تحديد مكانة الفلسطينيين وعلاقتهم مع المشروع الوطني الفلسطيني بشكل متبادل حيث تم التعامل مع خصوصية الداخل كواقع من قبل منظمة التحرير من جهة ومن قبل الفلسطينيين في الداخل من جهة أخرى.
لعبت النكسة دورا مهما في ترسيخ الخصوصية بسبب ما حملته من معان ونتائج متناقضة، فقد كان عام 67 هو عام التلاقي وعام القطع بذات الوقت، حيث أدى الاحتلال إلى تحلل فلسطينيي الداخل من سياسات التقية التي ظاهرها القطيعة الرسمية وباطنها اللقاءات السرية، وأصبح بإمكان الفلسطينيين في جانبي الخط الأخضر الالتقاء مع أقاربهم وأهلهم بشكل علني. لكن المشكلة أن اللقاء تم في ظل احتلال باقي البلاد وليس تحريرها كما تأمل على الأقل الشعراء في كتابتهم عن الوطن، وهو ما تسبب في مولد القطيعة مع المشروع القومي التحرري الكامل ونقطة مأسسة المكانة الاستثنائية وخصوصية المواطنة لفلسطينيي الداخل وتحولها إلى مركب أساس سائد في هوية الداخل وفي خطاب مثقفيها ومختلف أحزابها.
ثمة مجموعة من الأسباب المرتبطة بالنكسة أسهمت في ذلك من بينها يمكن أن نشير إلى:
● انهيار الإيمان بقدرة العالم العربي على تحرير فلسطين والنظرة السلبية المتصاعدة تجاه الأنظمة العربية مقابل الصدمة من القوة العسكرية الإسرائيلية، إذ كما كتب إبراهيم أبو لغد في مقالة لها نشرت في 1972: "استفاق العرب على حقيقة ناصعة، وهي أن هذا العدو، القليل العدة والعدد، أقدر من الجيوش العربية متفرقة ومجتمعة".
● بداية التشديد على الفوارق والاختلاف بدل التشابه: التقاء الفلسطينيين في إسرائيل مع إخوتهم في الضفة والقطاع في ظل الهزيمة العربية من جهة والانتصار الإسرائيلي "الباهر" من جهة أخرى، شكل محفزاً للتشديد على المختلف وليس المشترك، وقد تعمق توجه "التمايز" في ظل وجود فوارق جدية في مستوى الدخل العام بين الشقين، وفي ظل تحول التدريجي للفلسطينيين في إسرائيل إلى لعب دور الوسطاء والمقاولين الثانويين بين العمال الآتين من أراضي 67 والمشغلين اليهود.
● التحول التدريجي في م.ت.ف في التعامل مع إسرائيل من كيان مستعمر إلى دولة محتلة. حتى النكسة تم التعامل بشكل حاسم مع إسرائيل بوصفها كيانا أجنبيا وحالة استعمارية عابرة، ولم يكن أي صحافي يجرؤ على توصيفها بغير "الدولة المزعومة"، وإن كان لحرب 1967 من أثر فهو نقلها من مرحلة "الدولة المزعومة" إلى دور الدولة "المحتلة"، وهو ما يعني شرعنتها بحكم الأمر الواقع (De Facto) إذ أن فعل الاحتلال بعكس الاستعمار يظل فعلا قانونيا بحسب الأعراف الدولية، وفي هذا السياق فإن المناشدات لإسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها قوت شرعيتها كدولة. بل إن المناشدات الدولية المتراكمة من جهة، والمشاريع الاستيطانية الإسرائيلية في الأراضي التي وضعت يدها عليها بعد 1967، من جهة أخرى، أفضت إلى إزاحة النقاش من التساؤل عن حق المشروع الصهيوني بوصفه مشروعا استعماريا كما ظهر في الخطاب القومي الفلسطيني التحرري، إلى النقاش حول عدم شرعية الاحتلال العسكري لأراضي الغير بالقوة وهو ما يحمل اعترافا ضمنيا - ولو على طريقة السلب - أن الطرف الذي قام بالعمل الاحتلالي، هو أصلا دولة شرعية، وإلا لما كانت هناك حاجة لمطالبتها العدول عن عملها هذا بالذات.

بعد انتفاضة الألفين: بدايات تحول العلاقة من التضامن إلى الشراكة
بغض النظر عن السياق التاريخي الذي حول التجزيء إلى خصوصية، فقد تحولت هذه الخصوصية إلى سمة مميزة حاضرة وتأخذ بعين الاعتبار في التواصل والتنسيق بين جزئي الشعب، وقد كانت الانتفاضة الأولى عام 1987 الامتحان الحقيقي لممارسة الخصوصية إذ انتفضت أراضي 67 فيما لم تتعد الفعاليات في الداخل مسيرات الدعم التي غلبها الطابع السلمي، وكانت كل القيادات تشدد على أن هذه المظاهرات يقوم بها مواطنون يتضامنون مع حقوق مشروعة للتخلص من المحتل، بالمقابل تمحورت مطالب الداخل السياسية حول المساواة والعدالة. لكن مراقبة تطور نوع العلاقة منذ ذلك الوقت يشير إلى تبدلات مثيرة وإلى تغيرات قد تشي بتبدلات استراتيجية مستقبلية، وهذه التغيرات بدأت مع الانتفاضة الثانية، ومرت بمرحلة خبو ثم عاودت التعاظم مؤخرا ويمكن من خلالها ملاحظة تزايد التفاعل بين جانبي الخط الأخضر وبتقوية مشاعر الانتماء المشترك، والأهم بالتحرك معاً في الأحداث والهبات المختلفة مما يخلق شعوراً بأن العلاقة تتحول من مرحلة التضامن التي سادت مع الانتفاضة الأولى إلى الشراكة. ومن ميزات هذه المرحلة يمكن أن نشير إلى:
1. ذوبان تدريجي للحدود السياسية المحسوسة الفاصلة بسبب ظهور أدوات تجاوز للحدود جديدة وفرتها التكنولوجيا والشبكة العنكبوتية، في هذا الواقع الجديد يتم التواصل والتشبيك من خلال أدوات التواصل الاجتماعي وبناء خلايا تواصل وحوار وتبادل أفكار وبناء مساحات للعمل الثقافي المشترك من غير أن يشكل الجدار عائقاً.
2. تزايد تجارب التفاعل الإيجابية على الأرض ليس فقط من خلال بوابة التضامن ضد الاحتلال بل من خلال التفاعل الاجتماعي المرتبط بالترفيه، والفن، والأدب، والسينما والمهرجانات المختلفة التي احتضنتها خاصة مدينة رام الله وتفعيل نشاطات متزامنة ثقافية بين مدن الداخل والضفة وغزة، ما أسهم في تعميق التواصل وفتح آفاق للتعاون، خاصة بين فئات شبابية من الطلبة ونشطاء الحراك السياسي الذين يرون فيها حيزا حميميا للتفاعل والذين يقودون فعليا جزءا مهما من الحراك السياسي.
3. صياغة المشروع الصهيوني ضمن مفاهيم جديدة مأخوذة من قاموس الأبارتهايد وهو ما يحمل بذوراً أولية لتطوير مشاريع نضالية مشتركة مبنية على أساس تفكيك الهرمية الإثنية على أسس مواطنة ومساواة على الرغم من ضرورة الانتباه إلى تحول الخطاب من خطاب تحرر من الاحتلال إلى خطاب حقوق.

المستوى العملي-التطبيقي:
إذا كان الفلسطينيون متحدين في هوية جامعة واحدة، تتشكل من موروثه التاريخي والمجتمعي والشعبي وتقاليده ولغته ومخزونه الروحي والجمعي، رافعتها الأم هي الثقافة الوطنية التي استمرت في توحيد أجزائه بعد النكبة وفي ضمان التبادل والتفاعل من خلالها، وإذا كانت الخصوصية تحولت من نتاج للتجزئة إلى واقع بنيوي اليوم، تصبح الأسئلة المطروحة هل نريد أولاً وهل يمكن ثانياً أن نتجاوز التجزئة مع الأخذ بعين الاعتبار وجود خصوصية ومحددات لكل مجموعة وكيف؟
سأجيب عن السؤال الثاني فقط لأن الأول سؤال سياسي لا يمكنني أن افترضه. وللإجابة عن هذا السؤال علينا أن نحدد أولا ما الذي يريده الفلسطينيون؟
يختلف الفلسطينيون على أغلب الأشياء لكنهم يتفقون في غالبيتهم على أنهم يتوقون للحرية والعدالة والمساواة. وبالانطلاق من هذه القيم ورغبة في تحقيقها بلورت المجموعات المتوازية مشروعات سياسية متمايزة ومتقاطعة في ذات الوقت لتحقيق هذه القيم من خلال المشاريع التالية:
● إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
● العودة.
● المساواة التامة والعدالة للفلسطينيين في إسرائيل.
وعلى الرغم من أن هذه المشاريع تنطلق من احتياجات الأجزاء المختلفة بالانطلاق الكامل من محددات وخصوصيات كل مجموعة، إلا أنها عير قابلة بشكل فعلي للفصل وهي متداخلة ومتشابكة معا. إن المساواة التامة للداخل غير ممكنة إذا استمر الاحتلال من جهة وإذا لم تحل مسألة اللاجئين من جهة ثانية وذلك لعدة أسباب:
أولا: بسبب البنية القومية لإسرائيل كدولة يهودية وضبط ممارسات وقيم وقوانين ومؤسسات الدولة بناء على هذا التعريف، وفي هذا السياق فان ضبط الهوية وطبيعة الدولة في الداخل يتم مقابل الفلسطيني لأنه هو اللايهودي وكذلك الأمر في الأراضي المحتلة وتجاه الشتات. عدم المساواة الكاملة منبعها الإصرار على يهودية الدولة، وعدم إنهاء الاحتلال وإقامة دولة مستقلة والانسحاب من القدس مرتبط بتحميل الصراع بعدا يهوديا تاريخيا دينيا قوميا، وعدم التنازل في قضية العودة مرتبط بالخوف من تغير بنية الدولة ومن إنهائها كدولة يهودية. في هذا السياق يمكن أن نذكر بالموازاة في طرح مطالب الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية من المنظمة مقابل طرح قانون إسرائيل كدولة للشعب اليهودي. من المهم أن نشير هنا إلى أن الإحصائيات والأبحاث الديموغرافية المختلفة تشير إلى أن إسرائيل تتحول باستمرار من مجتمع علماني إلى مجتمع أكثر تدينا ويمينية وهو ما يعني أن الإصرار على يهودية الدولة سيتزايد أكثر في المستقبل المتوسط والبعيد.
2. وجود علاقات عضوية وعائلية وقرابة دم بين أبناء الشعب الواحد خاصة في مناطق التماس في المثلث والنقب، يعني فعليا أن معاناة طرف في جهة تؤثر على نوعية الحياة لبقية العائلة في الطرف الآخر وتمس حريتها في التنقل والتواصل، على سبيل المثال لا الحصر في قرى زيمر حوالى 50% من العائلات هي من زيجات مختلطة بين جانبي الخط الأخضر، توجد علاقات عائلية متشابكة، ولا يمكن أن نتصور مثلا أن تتحقق المساواة التامة للفلسطينيين في الداخل في ظل استمرار الاحتلال والتحكم بالتواصل العائلي ومنع لم شمل العائلات.
3. توجد فئة كبيرة من مواطني الداخل من اللاجئين الذين فقدوا كامل أملاكهم ويسمون مرة لاجئين داخليين أو مهجرين أو حاضرين غائبين... إلخ من التسميات، وقضيتهم مرتبطة بحل قضية اللاجئين بشكل عام، لكن قضيتهم هي أيضا قضية مواطنة ومساواة كما أنها في ذات الوقت قضية على جدول المفاوضات وهي قضية كل فلسطيني في الشتات الذي يعود في أصوله إلى الداخل، فلاجئ لبنان هو ابن الجليل وليس أصلا من أراضي الضفة.
4. قضايا المساواة التامة والمواطنة في ظل عدم حل موضوع العودة أو التعويض يضع الداخل أمام إشكاليات أخلاقية وعملية عليه حسمها كالتعامل مع أراضي الدولة التي هي أراضي اللاجئين والتي توزع اليوم على الأزواج الشابة العرب في قرى ومناطق عربية من منطلق تحسين أوضاعهم. كيف يمكن التعامل مع هذه القضية؟ هل يعتبر فرز أراض مثلا في قرانا للبناء وهي أصلا أراضي لاجئين مقبولا؟ كيف سيؤثر هذا على مطالب التعويض أو حق العودة؟
5. ناهيك عن كل التعقيدات المرتبطة بالمشاريع السياسية وطرق تحقيقها فإن الواقع دينامي جدا وعصر السايبر والسرعة ينتج تشكلات دوائر تواصل جديدة تخلط حدود التجزيء الكلاسيكي وتسيل الحدود بين الأجزاء، ما يزيد من التداخل بينها.
لقد أنتجت التغيرات الكونية في كل ما يتعلق بإعادة صياغة الحدود وعبورها مساحات متداخلة بين أبناء الشعب الواحد ويمكن أن نكون في طريق إعادة إنتاج الأجزاء بشكل جديد لا تتطابق بالضرورة فيه التقسيمة الجغرافية - سياسية مع تشكلات الهوية الجديدة. يتجه كثير من الشباب الفلسطيني نحو التواصل عبر الحيز الافتراضي وتشكيل جماعات هوية متمايزة عابرة للتقسيمات الكلاسيكية. يشار إلى أن الأبحاث المختلفة في علم الاجتماع أصبحت الآن تتحدث عن تشكل هويات جديدة بسبب التغيرات في حيز السايبر، وتنظر لآثارها بعيدة المدى على تشكل الهويات. هذا العامل يعني بالضرورة ترسيخ التماهي بين أجزاء مختلفة وتحول الفصول في الحلول إلى شبه مستحيل، اذ لو افترضنا جدلا أن الفلسطيني في الداخل وصل إلى المساواة التامة ولم يتم حل قضية اللاجئ الفلسطيني فهذا يعني أن التشكلات الهوياتية المتداخلة ستحول قضية اللبناني في المخيم إلى قضية جماعات عابرة للأجزاء، هذا ناهيك عن الترابط الروحاني والعاطفي المرتبط بوجود نحن جمعية تشترط بالضرورة حل كل القضايا لتحل القضية الواحدة للجزء.
6. الترابط الوجداني ووجود النحن يعني أن الفلسطينيين يتماهون مع رموز مشتركة أساسية، وعلى رأسها الأقصى، كما يتماهون مع النجاحات التي تشكلها شخصيات ناجحة ومع المقاومة والنضال وكلما تزايدت نجاحات جزء ما تزايدت الرغبة في التماهي معه وفي تعميق العلاقة معهم. في هذا السياق لا يمكن الفصل على الإطلاق بين مطالب الداخل والضفة والشتات لأنهم سيظلون متشابكين وجدانيا وهم متجاوزون للسياسي بهذا المعنى.
إذاً، ما دام الفصل بين المطالب غير ممكن، وما دام تحقيق أهداف المساواة في الداخل يرتبط بموقف المنظمة من الاعتراف بيهودية الدولة وما دامت المطالبة بمساحات للبناء في قرية في الداخل تنعكس على حقوق اللاجئ في لبنان، إذن كيف يمكن أن يتم التنسيق بين الأجزاء المختلفة؟ كيف يمكن أن تتشكل علاقات تدعيم وتنسيق بين الأجزاء المختلفة وما هي الأدوات الممكنة.
حتى الآن تمت عمليات التنسيق والتواصل على المستوى السياسي من خلال التشاور وتبادل المعلومات والتقييمات وفي الصعيد الشعبي على مستوى التضامن في المحطات المهمة وسابقا على مستوى مخيمات العمل التطوعي التي انقرضت حاليا. وعلى أهمية هذه العمليات إلا أن مشكلتها الأساسية أنها اعتباطية وعفوية وتابعة أحيانا لمزاجات وحسابات شخصية، وهو ما يعني أن أثرها غير مضمون.
وفي سياق الخصوصيات التي تحدثت عنها وتطور آليات العمل السياسي لكل جماعة فان الطريقة الأمثل للتدعيم المتبادل تكون فقط من خلال خلق إطار ممأسس جامع يتجاوز التشتت والمزاجية والعفوية يجتمع بشكل دوري منظم في مكان يسمح بتواجد أبناء الشعب الفلسطيني من كل مكان وتكون له بنية واضحة ومبنيا على توزيع واضح ودوري للوظائف الرسمية دون أن تكون له قرارات سياسية، هذا المقترح لا يطرح هنا أول مرة ويعود الفضل في طرحه أولا الدكتور كميل منصور، صاحب الخبرة أيضا في القانون الدولي، والذي دعا إلى إقامة "كونغرس فلسطيني وطني" شامل يتجاوز التجزئة الواقعة.
بغض النظر عن تسمية هذا الإطار، فإنه يبدو انه ضرورة حتمية لتجاوز الضعف البنيوي والتشرذم، بحيث يضع أمامه تحقيق الأهداف التالية التي تشكل في نهاية المطاف أدوات لتمكين الفئات المختلفة من تحقيق مطالبها السياسية ومن تجاوز الخلل البنيوي المرتبط بالجزيء وهي:
1. تقوية الوجود الفلسطيني في فلسطين (لأن الهوية الواحدة فلسطين مرجعيتها ولأن فلسطين الأرض هي عنصرها الحامل ولأن وجود كل فئة مستهدف بسبب انتمائها للشعب الفلسطيني).
2. الدعم المتبادل من أجل تمكين الأجزاء المختلفة في كل المجالات ومن أجل تحقيق الأهداف السياسية لكل جماعة (لأن كل جماعة يمكن أن تؤثر على تحقيق أهداف الأخرى، ولأن قدرة الضغط تكون أقوى).
3. تشبيك العلاقات بين الفئات المختلفة للشعب الفلسطيني من خلال تحويل كل المهرجانات والمسابقات والدوريات وكل ما يمكن ويسمح إلى أطر فلسطينية جامعة.