بقلم: د. هنيدة غانم
تهدف هذه المقالة إلى التحريض على تجاوز الوقع السياسي الفلسطيني المأزوم، من خلال اقتراح تطوير إطار عمل جماعي وطني من جهة وتحويل الجهد نحو بناء الكينونة الفلسطينية الجماعية من جهة أُخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات والمحددات المؤثرة للجماعات المختلفة سواء في الداخل أو الضفة والقطاع والقدس أو الشتات.
بداية، سأقوم بقراءة سوسيولوجية تحليلية لثلاثة مفاهيم أساسية ومشكلة في التجربة الفلسطينية العامة وفي صياغة اقتصادياتها الداخلية وعلاقاتها المتبادلة كما تتجلى اليوم، وهي: التجزئة والخصوصية والوحدة.
وسأحاول أن أطرح قراءة لمعنى هذه المفاهيم والمقصود فيها والعلاقة بينها وتأثيرها على واقعنا الحالي ومستقبلنا الوطني وسبل التعامل معها.
على خلاف العادة أريد أن أبدأ بالذات بالإشارة إلى عدة نقاط يتفق عليها أغلبية الفلسطينيين إن لم نقل كلهم ثم سأنتقل لبعض الملاحظات المرتبطة بنيويا.
هذه النقاط هي:
1. إن الشعب الفلسطيني مجزأ نتيجة ظروف تاريخية وسياسية فرضت عليه أهمها النكبة وليس بسبب خيار.
2. إن التجزيء هو أحد عوامل ضعف الفلسطينيين بشكل عام وفي أماكن التواجد المختلفة بشكل خاص.
3. إنه من الأسهل لإسرائيل أن تتعامل مع الشعب الفلسطيني كأجزاء بدل التعامل معه ككل.
إذا اتفقنا على هذه الأمور يمكن أن نضيف بعض الملاحظات المرتبطة ارتباطاً بنيوياً بها وهي:
1. أنتج واقع التجزئة والعيش في سياقات متمايزة والتفاعل المختلف للأجزاء في أماكن تواجدها خصوصيات الجماعات المختلفة التي هي انعكاس لاحتياجات وضرورات وخيارات كل مجموعة، والتي تحولت إلى جزء من ثقافة الحياة اليومية والسياسية. أي أن التجزئة هي الشرط الأول الذي أدى إلى إنتاج الخصوصية ونحت مميزاتها وشكل حدودها.
2. إن الاحتياجات والضرورات والمحددات لكل جزء أنتجت عوالم فلسطينية اجتماعية متوازية دون وجود أي رابط أو إطار جامع بينها.
3. إن الأجزاء المختلفة في عوالمها المتوازية طورت مشاريع سياسية متوازية ولغة حقوقية متوازية وأدوات نضالية مختلفة، إذ يركز فلسطينيو 67 على الدولة من خلال تبني أشكال نضال تتراوح بين شعبي ومسلح، ويركز الداخل على المواطنة عبر الأدوات السياسية، فيما تحول تركيز الشتات اليوم باتجاه العودة.
4. إن كل مشروع سياسي للجماعات المتوازية ينطلق من علاقات القوة والسياق الموضوعي الذي يتموضع فيه ويتفاعل معه دون وجود رابط ممأسس ينظم العلاقات بينهم فيما عدا اجتهادات عابرة.
5. إن التجزئة الحالية ليست نهائية بل متحركة ومتبدلة، حيث نشهد نزعاً متصاعداً للشتات عامة والمخيمات الفلسطينية خاصة من الجماعة السياسية المقصودة بحق تقرير المصير، وتعميق فصل غزة عن الضفة.
**
تستدعي هذه الملاحظات مجموعة من الأسئلة المهمة التي تتوزع إلى ثلاثة مستويات متشابكة ومترابطة بشكل بنيوي، وسأحاول أن افصل بينها إجرائياً هنا، فقط من اجل تسهيل عملية تفحصها والتي يمكن أن تساعدنا في صياغة تصور للعلاقة الممكنة والمرغوبة بين أجزاء الشعب المشظى:
وطنية- وجودية، وسوسيولوجية- سياسية وتطبيقية- عملية.
1. الوطنية-الوجودية: مرتبطة بتعريف الجماعة لذاتها وللأنا الجمعية: من نحن؟ وتعريفها لمصلحتها العليا: ماذا نريد؟ وما العلاقة بين الجزء والكل؟ كيف نريدها أن تكون؟
2. سوسيولوجية تنعكس على الوطني والوجودي وتؤثر فيه وتتشكل على صداه أهمها: ماذا نقصد بالتجزئة وكيف نعرفها؟ كيف تتمظهر التجزئة؟ ما هي العلاقة بين التجزئة وتشكيل مفهوم الخصوصية، وهل يمكن أن نفصل بينهما؟
3. تطبيقية- عملية: هل يمكن أن نتجاوز التجزئة وكيف؟ ما هي الأدوات المتوفرة أمام الجماعات الفلسطينية في أماكنها المختلفة؟ هل يمكن أن نعيد مناورة الواقع وتحويره بحيث تتحول الخصوصية إلى أداة للتمكين الجماعي والتشبيك بدل الفصل والتمييز؟
المستوى الوجودي- الوطني:
يقصد بالوجودي- الوطني عالم المعاني الذي تعطيه الجماعة لوجودها ولتجاربها التاريخية وصيرورتها، وتعبر من خلاله عن مشاعرها المشتركة ونظرتها تجاه أحداث وشخصيات ورموز، وتشكل المعاني محور سرديات الجماعة القومية الكبرى وتتضمن تصورها عن ذاتها وتنعكس بشكل أساسي في تعريفها للنحن الجمعية المتخيلة (وليس المتهيأة بالطبع). وتشكل الثقافة حامل المعاني الأساس الذي يستدمج المعاني ويعيد صياغاتها في منتجات محتفلة كالحكاية الشعبية والأدب والشعر والفن وغيره. ويعتبر المثقف في هذا السياق وكيل إنتاج المعاني الثقافية وصاحب دور أساس في نحت قيم المجتمع وتوجيهها ونشرها، وحرس بوابتها الذي يحدد القيم والرموز التي يجب أن تحترم وتلك التي يجب أن تدان.
يمكن أن نشير إلى أن الفلسطينيين في كل مكان في العالم يتشاركون في مجموعة من المعاني الأساسية التي تشكل محور صياغتهم للنحن الجمعية، كما يتقاسمون في فهمهم للأحداث التاريخية المختلفة في العصر الحديث. وقد لعب المثقفون وخاصة الشعراء والأدباء في هذا المجال الدور الأهم في صياغة النحن والتعبير عنها برموز ومعان تثير تعاطف وتماهي كل أجزاء الشعب بغض النظر عن أماكن تواجدهم.
وفي هذا السياق بنى المثقف خاصة والفلسطيني في أماكن تواجده المختلفة معنى التجزئة والشتات في سياق بنائه لسرديته الوطنية لتاريخ النحن الحديث حيث تحضر النكبة بوصفها حدثا مؤسسا يشطر التاريخ الزمني ما بين عالمين: عالم ما قبل الحميمي الكامل والفردوسي وعالم ما بعد المتشظي والاغترابي والمنزوع والمجتزأ.
إن القول بواقع التجزئة في الخطاب العام هو القول بوجود واقع سابق كان فيه كل واحد تم تفسخه في لحظة ما. وحين يشير الفلسطيني عامة والمثقف خاصة إلى التجزئة فهو يشير فعليا إلى لحظة عنيفة في تاريخه الحديث أدت إلى تحوله من كل واحد ينضوي تحت مظلة شعب واحد إلى أجزاء متفرقة، لم تكن قبل ذلك موجودة هي الفلسطينيون في الداخل ممن يحملون جنسية إسرائيلية، والفلسطينيون في مناطق 67 وفلسطينيو الشتات، علما أن مناطق 67 عاشت تجربتين متمايزتين بين الحكمين الأردني والمصري.
ويقصد بالكل الواحد أو "النحن الجمعية" مجموعة السكان الذين عاشوا في فلسطين قبل عام 1948 واشتركوا بعدة مميزات على رأسها العيش في وحدة جغرافية محددة والانتماء الاثني واللغة الواحدة والتاريخ والعادات والتقاليد. ولعبت هذه المميزات دورا في تطويرهم لهوية قومية مشتركة في أساسها الشعور بوحدة المصير والمطالبة بحق تقرير المصير. وقد أسهم في تشكل الجماعة القومية وتصليب عودها وجود عدو مشترك هو الحركة الصهيونية والانتداب البريطاني والمواجهة المستمرة معهم على الأرض. وبغض النظر عن الاجتهادات والمشاريع السياسية التي طرحت قبل عام 48، فان الميزة المهيمنة للوجود القومي الفلسطيني كانت الاعتقاد بوحدة الشعب ووحدة المصير ومن هنا أيضا الأهمية التي تلعبها النكبة في الثقافة الوطنية بوصفها لحظة فقدان راديكالية.
في الأدب والكتابة والفن والحكاية الشعبية تستحضر صورة فلسطين "ما قبل" بوصفها تشير إلى الوحدة والكمال والفردوس والمكان الحميمي والأمان، فيما يشار إلى كل ما بعدها كنقيضها الذي يشتق من غيابها، الشتات وفقدان الأمان والذل والإنكار والخوف والتستر على الحلم، وبين الاثنين تطل من بين ثنايا الشعر والأدب صورة الفلسطيني المتخيل الذي يراد منه أن يستعيد الماضي الذي يشكل المستقبل الوحيد الذي يتوق إليه الفلسطيني. وما هو الماضي؟ تساءل إميل حبيبي في قصته القصيرة "وأخيرا... نوّر اللّوز ويُجيب على لسان أحد أبطاله: "إنّ الماضي ليس زمنا. إنّ الماضي هو أنت وفلان وفلان وجميع الأصدقاء [...] ماضينا، الذي أريده أن يعود كما يعود الربيع بعد كلّ شتاء".
ماضي الفِلَسطينيّ المتخيل هو صورة سالبة للحاضر المُتنكّر له والمُقصي، حياته السابقة للخراب: البيت قبل أن يُصبح خيمة، الفلاّح قبل أن يُصبح لاجئا، يافا قبل أن تُصبح خربة، وربيع الكرم قبل أن يصير كومة أشواك. الماضي إذن هو بالضبط المستقبل. وبكلمات درويش :
والآن وأنت مُسَجّى فوق الكلمات وحيدًا، ملفوفا بالزنبق، والأخضر والأزرق، أدركُ ما لم أدرك:
إنّ المُستقبل مُنْذُئذٍ،
هو ماضيك القادم!
الصورة المستحضرة للماضي لا تشير بالضرورة إلى حالة موضوعية وهذا أمر لا يهم في تشكل الهويات الجمعية، بل حالة ذاتية متخيلة ومتشكلة في الوعي. المهم ليس ما كان بل كيف يتم تخيله وبناؤه وما الذي يستحضر وما الذي يغيب في كتابة الهوية.
موضوعيا حدثت التجزئة نتيجة تقاطع فعلين قامت بهما القوات الصهيونية هما التشريد من جهة ووضع الحدود وتعليم مساحة الدولة من جهة أخرى، وفي حين أدى الأول إلى توفير مساحة للدولة الإسرائيلية فان الثاني كان أداة مأسسة سيادتها على المساحة هذه، والأمران لم يكونا ممكنين إلا بفعل عنيف راديكالي يسميه والتر بنيامين عنف التأسيس أي العنف الذي يؤسس للبنية المستجدة في مقابل أشكال العنف الحافظة التي جاءت بعد ذلك من أجل تأكيد استدامة البنية التي أسست للتو، ووصفها إميل حبيبي على لسان سعيد من خلال ما فعله أبو اسحق بامرأة قروية فلسطينية كان معها وليدها. عادت هذه تسللاً إلى قريتها البروة، فرآها أبو اسحق، وخاطبها قائلاً:
"ألم أنذركم أن من يعود إليها يقتل؟ ألا تفهمون النظام؟ أتحسبونها فوضى. قومي اجري أمامي عائدة إلى أي مكان شرقاً. وإذا رأيتك مرة ثانية على هذا الدرب لن أوفرك" وهكذا يطردها إلى خارج فلسطين. (من المتشائل)
وهو ما يعني أن تشظي الكل الفلسطيني مرتبط ببدء الوجود الإسرائيلي للدولة وأن تأكيد استمرار هذا التشظي هو جزء من أدوات العنف الحافظ الذي يهدف إلى استدامة البنية بصيغتها الأولى.
وتزخر الكتابة الأدبية والثقافية الفلسطينية بالكتابات التي تصف لحظة التشظي هذه ومآلاتها الاجتماعية والنفسية والجمعية كما تزخر بتوصيف طرق الخروج منها. ويمكن أن نلحظ في هذا السياق انبلاج موتيفات في الثقافة الفلسطينية تعبر بشكل متفاوت عن تجربة النكبة من حيث الطريقة التي خبرها، حيث تتمحور الكتابة الأدبية للشتات حول موتيف الفردوس المفقود، وأرض البرتقال الحزين، في مقابل التمحور حول موتيف الأرض في الداخل والصمود والبقاء فيها بكل أساسي. وتتفرع من هذه الموتيفات مجموعة من الرموز الفرعية منها المرتبطة بالنضال كالتغني بالفلسطيني المقاوم والند مقابل المهزوم والذليل والمتخاذل ...الخ.
المهم في هذه الكتابات أنه وبغض النظر عن خصوصيات التجربة لكل مجموعة وعن التشظي الجغرافي للمجموعات التي ولدت من النكبة إلا أن هذه الفترة الممتدة من 1948 وحتى بداية السبعينيات شهدت إصدار مجموعة كبيرة من الكتابات الأدبية المؤسسة لثقافة وطنية فلسطينية جامعة، التي تشكل النكبة عقدة تواصلها والأرض محورها (عبر التشبث بها أو الحداد على فقدانها والتوق للعودة إليها)، والماضي حامل فردوسها المحلوم ومستقبلها المختبئ حتى الخلاص.
النكبة تشكل في هذا السياق اللحظة الزمانية الجامعة، والعقدة التي تربط خيوط الجماعات المجزأة في سردية واحدة لها مكوناتها وموتيفاتها، والتي بغض النظر عن الانتماء المكاني اللاحق للكاتب سواء كان في الداخل أو الخارج في حيفا أو الشتات يمكن أن يشعر الفلسطيني تجاهها بالتعاطف وأنها تعبر عن مكنوناته النفسية وأن يتضامن معها، وهي بهذا المعنى دينامو إنتاج الهوية الوطنية الجمعية الذي يتحلق حولها الفلسطينيون. من هنا يمكن أن نفهم لماذا لا يعد سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زياد وراشد حسين وحنا أبو حنا شعراء المواطنين العرب في إسرائيل، بل شعراء فلسطينيين والأمر ذاته عن ناجي العلي وغسان كنفاني ومعين بسيسو وهم بهذا استمرار لا حالة جديدة ومن الضرورة موضعتهم على التسلسل التاريخي لا بموازاته.
وقد عبر توفيق زياد عن رؤية مهمة حين كتب:
ليس صحيحا أننا- الشعراء الذين أبقتهم الكارثة في وطنهم- بدأنا من جديد...كل شيء يمكن بدؤه من جديد إلا الثقافة الأصيلة، التي كالحياة نفسها، تورث بقوة الاستمرار. نحن الشعراء الذين كنا ببدايتنا نعد على أصابع اليد، لم نبدأ الطريق بل أكملناها... هي الطريق ذاتها منذ إبراهيم طوقان وأبو سلمى وعبد الرحيم محمود ومطلق عبد الخالق وآخرين.
إذًا يمكن أن نقول إنه رغم التجزئة والنكبة والتشظي، ورغم تهديم الأطر المؤسساتية، نجت الثقافة رغم ما أصابها من كدمات. وعادت للعمل من جديد بوصفها وعاء جمعيا تمر منه مشاعر الجماعة وتصاغ قيمها وتطلعاتها، وتحمل لا وعيها الجماعي، وإن حضرت عبرها تجارب الجزء في توزعاتها وتنوعاتها فإنها تستدمج ضمن سردية الجماعة الكبرى وليس بموازاتها.
لقد كانت أشعار درويش في "سجل أنا عربي" تثير حماسة الفلسطيني في لبنان ولو أنها كتبت للرد على تحدي الهوية في الداخل، كما حرك شعر سميح القاسم "يا منشئين على خرائب منزلي تحت الخراب" نقمة وحماسة الفدائي الذي وضع خطاطات صورته راشد حسين في قصائده.
لم يكتب الشاعر في الناصرة عن مصادرة الأرض فقط بل عن العودة والخيمة وأرض يافا الحزينة، وكان غسان كنفاني يكتب عن أرض البرتقال الحزين وعن عكا وكانت الرموز تتداخل في وعاء الثقافة الوطنية التي ظلت الحاضنة المشتركة للنحن الجمعية. لقد ظلت الثقافة أهم مظلة جامعة فلسطينيا واستمرت الأجزاء في رفدها رغم خصوصياتها وهو ما يشكل نموذجا يمكن استخدامه لتجاوز الأجزاء وتمكين الجماعة.
* مدير عام المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار).


