لا اعرف كما لا يعرف عاقل من هذا العالم الذي يراقب باشمئزاز وملل حقا ما يجري بيننا وبين الإسرائيليين منذ نصف قرن على الأقل، متى يمكن ان تحدث المعجزة ويلهم الله بحكمته الواسعة ورحمته هذه الحكومات الإسرائيلية ورؤسائها ووزراء حروبها واجتماعات مجالسها المصغرة، بان تكف عن مواصلة هذه اللعبة العبثية بادامة هذا التمسك بالوهم او خداع النفس، وبالتالي الضحك على ذاتها وشعبها بانها يمكن حتى في هذا القرن الواحد والعشرين، وقد تغير العالم بما يشبه الانقلاب مئة وثمانين درجة في وعيه وثقافته السياسية والأخلاقية ومزاجه العام، عما كانت لوثة حضارته وعاره قبل مئة عام أي احتلال شعب اّخر واستعباده.
متى تفهم إسرائيل بعد الذي جرى المرة بعد المرة الف مرة وبعد ما جرى في تل ابيب وغيرها، انه كفى لهذا العبث في دماء الشعبين اذا كان من المستحيل مواصلة احتلال شعب، ما كان حتى قبل العام 1948 خارج التاريخ او على هامشه؟ وهو كان ولا يزال يملك هذه الذروة الحاسمة في تبلور شخصيته وهويته وكينونته واعتداده بذاته. وهي العوامل الحاسمة التي حالت منذ العام 1948 ،وبعد ذلك منذ العام 1967 ان يندثر او ان يقر بهزيمته او خسارته لهذه الحرب المتواصلة، والتي لم يتوقف عن استئناف خوضها بوسائل جديدة ومبتكرة في كل مرة يعتقد فيها انه قد استسلم او استكان.
كلام في البديهي في ما هو بديهي؟ والجواب هو نعم. وان كانت هذه الإحالة الى ما هو بديهي أي يفترض ان يكون مدركا او معروفا بالبداهة أيضا، الا انه مستدركا عند هذه الحادثة الأخيرة في تل ابيب التي تعيد اختزال بل وتكثيف السجال بين الفلسطينيين والإسرائيليين الى حقائقه الأولية البديهية والمجردة. انما يجب الاعتراف باننا نقاربها مع ذلك بقدر لا يخلو من شعورنا بالصدمة بل وربما الدهشة او اليأس، حين يبدو لنا كما لو ان عقل عدونا في هذه الحالة كما لو انه يعاني استعصاء ما غامضا او غير مفهوم على نحو ما، او ربما يلتبس علينا تحليله وفهمه بتجاوزه على هذا البديهي.
وهي مشكلة بدأ العالم في الاّونة الأخيرة يعبر عنها ويضيق ذرعا بها، كما عبر عن ذلك قبل اشهر الأمين العام للأمم المتحدة في تصريحه الشهير عن مقاومة الفطرة البشرية للاحتلال. كما تصريحات وزيرة الخارجية السويدية عن شرعية رد الفعل الفلسطيني على الاحتلال، وكذا جو بايدن نائب الرئيس الأميركي عن استحالة مواصلة إسرائيل العيش على حد السيف. فلماذا إسرائيل لا تعي فيما يعيه كل هذا العالم؟ وهو ما يشير الى اختلال مرضي في العصب الدماغي على مستوى الوعي المطابق للواقع؟ ام انه اختلال بالمحصلة على مستوى الجدارة النوعية للقيادة ووجود ثغرة حقيقية هنا بفعل عماء القوة التي تحدث عنها ارسطو وقال، ان الأقوياء هم اّخر من يعرفون الحقيقة.
وربما الجواب هو كل هذه الجوانب التي تتناول الابعاد المعقدة للمشكلة، لكني اضيف الى جانب ضلال القوة والبصيرة التي تعمي البصر ويلازمها الاستخفاف بالخصم، كما حدث مع عبد الناصر العام 1967. بان الطموحات التي تنبثق عن الفكرة او المشروع او الاوهام، انما هي السبب الموازي الذي يغذي هذا الوهم او خداع الذات، والذي ينتهي هنا بالممارسة السياسية اليومية والمباشرة للقادة الإسرائيليين، ان يكونوا في نظر العالم اجمع وفي الواقع منفصلين عن هذا الواقع. وليس لسياساتهم صلة بهذا الواقع وصولا الى الانفصام بين الزمن والسياسة، سياسة تدار خارج الزمن.
وتدلنا تجارب التاريخ انه عندما يبدأ هؤلاء الحالمون الاصطدام بالحقائق العنيدة ولكن غير المزيفة للواقع، فانه يحدث لهم التحول الأخير والحاسم أي الانتقال الى الفاشية، الطور الأخير ما قبل الموت. موت الاحتلال والاستعمار وغروب عصره وزمانه راحلا يحمل معه عصاه ومستوطنيه. الجزائز مثالا وفيتنام أيضا.
وها نحن اليوم شهود على هذا التحول في قصة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني فما بعد الاحتلال المتنور المخملي وغير المرئي زمن دايان، ها نحن ندخل مع بنيامين نتنياهو وقبل ذلك مع شارون وموفاز وصولا الى ليبرمان في زمن الاحتلال الفاشي.
الى يطا اذن التي خرج منها هذان الشابان ونفذا عمليتهما بجوار وزارة الحرب الأهم في الشرق الأوسط، وكان يعالون قال بعيد إخراجه منها ووضع ليبرمان عليها فيما يشبه النبوءه او الحدس، ان نتنياهو حولها الى مسخرة.
الى يطا الى الامام سر، طوقوا ما يزيد عن مئة الف نسمة. ويحدث هذا في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، حارس السجن هنا الذي يحاول ان يذكرك بان ارادتك او حريتك مسلوبة، وانه هو صاحب الإرادة ومن يقرر ان يفتح لك الباب او يغلقه.
وقال الزعيم والقائد الذي تمتلئ أعمدة وصفحات صحف إسرائيل بالحديث عن فساده والسيدة زوجته، انه انتظر سماع تنديد السلطة بهذه العملية لكنها لم تفعل. والجواب لماذا كانوا ينددون في زمن رابين حين كان السلام يمشي على قدمين؟ وقبل قتله كانت السلطة وعرفات وأبو مازن وحتى النخبة الفلسطينية من كتاب ومثقفين ينددون علنا بمثل هذه العمليات. لكن السؤال اليوم ماذا ابقيت لهؤلاء يا بنيامين نتنياهو وللشعب الفلسطيني ككل؟ ولو كان لقادة إسرائيل اليوم عقل لدرسوا على نحو مقارن الفارق اليوم بين المزاج الشعبي الفلسطيني من هذه العمليات، وبين الامس زمن رابين. واليوم فالفلسطينيون حتى على اختلاف مشاربهم السياسية والأيديولوجية ليسوا عشاق عنف او طلاب عنف، ولكن ما الذي تبقى لهم ان يفعلوه وقد سدت كل الطرق امامهم؟.
هو ليس في التحليل الأخير الا نوعا من شعور الضعيف بما يمكن تسميته بعدالة الانتقام، حتى وهو يعلم هذا الضعيف المنتقم ان بيته سوف يهدم واسرته وعائلته الكبيرة سوف ينزل بهم شر انتقام من لدن القوي، بل والمدينة او القرية والشعب كله لن ينجوا من دائرة هذا الانتقام او العقاب الفاجر. ليتحول هكذا كلا الطرفين الى الوقوع او التورط في هذه المصيدة كدائرة مفرغة ولكن جهنمية وحمقاء من الانتقام والانتقام المتبادل، من العنف والعنف المضاد، القتل والقتل المضاد، لا قدرة لهما على الخروج او النجاة منها.
وهذه هي المسالة في قانون قوة العدوى والجذب: الجيرة الحسنة تجلب السعادة والسلام، والسلام يجلب السلام، الهدوء والحكمة تجلب الهدوء، وكذا النوم يجلب النوم والعنف يولد ويجلب العنف.
كان رأي عرفات الحصيف انه :اذا كنا غير قادرين على اخراجهم من هنا أي من كل ارض فلسطين التي هي بالاصل بلادنا، فعلي الأقل ان نطمح لعقد هذه الجيرة او الجوار الحسن بيننا لنكسب العيش بالسلام والسعادة، باعلاء قيمة الحياة ونحافظ على صيامتها وحرمتها للأجيال القادمة بدلا من مواصلة هذا الشقاء بسفك الدم، وبقية القصة معروفة قتل رابين وعرفات معا، وقاتلوهما بالأمس هم فاشيو اليوم.
فأي اشعاع تشعه اليوم يا نتنياهو انت ورجال حكومتك على أبو مازن والفلسطينيين؟ وقل لي ماذا ترسل الى الاّخرين، اي طاقة تصدر عنك اقل لك ماذا سيرتد عليك. وتبقى المسالة بالاخير مسالة المسائل بعد هذا الاشعاع الفاسد والملوث، ان الشعوب وحدها يا نتنياهو هي التي تمثل في هذه القصص الحزينة التجسيد الحي، لما ترمز اليه القوة الخفية ما فوق حسابات وسائط القوة المادية.
والواقع ان التطرف يغذي التطرف ولكن الانكى من كل ذلك الجزء الكوميدي الأسود من القضية، حينما يحاول القاتل ومن يشرعن قتل الفلسطينيين امام الملأ، تقمص دور الضحية. كتب محمود درويش قبل زمن طويل في القصيدة عن هذا القاتل الجلاد، الذي يطلق الرصاص ويبكي.
ورد ايمن عودة كيف له ان يضع الفلسطينيين في هذا الاختبار باثبات حسن السير والسلوك بإدانة قتل الإسرائيليين، بينما هو يشرعن قتل الفلسطينيين. ولذا فأن الإدانة هنا بالتساوي ادانة القتل والعنف ضد المدنيين من أي مصدر كان. وكانت هذه هي ادانة عرفات وموقفه زمن شارون. وما عبر عنه الرئيس أبو مازن بعد هذه الحادثة الأخيرة وهو الموقف الإجمالي للشعب الفلسطيني. ولكننا نضيف ان هذا الاستغلال الإعلامي في محاولة احراج القيادة الفلسطينية، لن ينفعه اذا كانت هذه العملية بالاخير انما تعزز الموقف الدولي الضاغط على إسرائيل وعليه هو شخصيا أي نتنياهو. في تكثيف الضغط اكثر لانهاء الاحتلال، بينما هو يحاول الهروب من دعوة أوروبا واميركا الى عقد المؤتمر الدولي، حتى الى روسيا من اجل التمكن من خلط الأوراق وتشتيت وتمييع الجهد الدولي، الا يصل الى حل.


