الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي صرح في خطابه (17 مايو) ان العلاقات المصرية الإسرائيلية "ستصبح أكثر دفئًا عندما تحل القضية الفلسطينية"، في الظاهر ليس هناك أي جديد في هذا التصريح، والذي ورد على خلفية التجهيزات لمؤتمر السلام الذي تم في باريس نهاية الشهر، التقارير الواردة حول الاتصالات من أجل عقد لقاء قمة إسرائيلية فلسطينية برعاية مصرية والمجهودات المبذولة لضم "المعسكر الصهيوني" إلى الائتلاف في إسرائيل.
لقد اعتمدت مصر بشكل قاطع اشتراط تحسين العلاقات مع إسرائيل بدفع اتفاق إسرائيلي - فلسطيني، والمبادرة العربية للسلام ربطت هي الأخرى بين انجاز اتفاق سلام شامل وبين التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، وما يزال انفتاح مصر الحالي على السلام "الدافئ" مشروط بالشأن الجيوسياسي الجديد الذي يحمل في طياته بشارة عظيمة، لم يعد التطبيق يقدم على أنه مجرد "طعم" يراد منه همز إسرائيل للدخول في العملية السلمية؛ وإنما يعكس المصالح الأصيلة لمصر والدول العربية الأخرى في خلق "نظام إقليمي جديد" يتضمن تعاونًا واسع النطاق وأكثر انكشافًا مع إسرائيل من أجل الاستقرار الأمني ونماء المنطقة اقتصاديًا.
تصريح السيسي كان على رأس سلسلة من التصريحات التي ظهرت في الصحافة المصرية بالفترة الاخيرة من قبل مسؤولين حكوميين ومسؤولين سابقين من الجيش المصري وسياسيين مستقلين دعوا إلى دراسة التحفظات التقليدية المفروضة على "درجات حرارة" العلاقات السلمية مع إسرائيل مجددًا وبشروط معينة، مقالات في الصحف اليومية الموالية للحكومة من بينها "الأهرام" و"المصري اليوم" أوضحت ان "تدفئة" العلاقات مع إسرائيل يستجيب من وجهة النظر المصرية عن الحاجة البراغماتية وأنه "لا يعني العناق والقبلات" مع الجانب الإسرائيلي. سياسة السيسي قورنت بسياسة السادات، سواء من حيث استهدافها لإحلال السلام الشامل بين الدول العربية وإسرائيل أو من ناحية قدرتها على أن تفرض لنفسها التعديلات المناسبة لاحتياجات المرحلة والظروف الإقليمية. بما يشبه مبادرة السلام التاريخية التي قدمها السادات فإن مبادرة السيسي الجديدة فسرت بأنها توجه استراتيجي يتجاوز إنهاء الصراع الإسرائيلي العربي وحل القضية الفلسطينية، إذا كان السلام مع إسرائيل في النصف الثاني من السبعينات جزءًا من عملية مصرية واسعة لاعتماد توجه موالٍ للولايات المتحدة فإن السلام "الدافئ" في الوقت الحالي أريد له ان يملأ الفراغ الذي حل في أعقاب تقلص التدخل الأمريكي في المنطقة، وذلك من خلال إقامة محور إقليمي جديد، في إطاره مصر ودول الخليج وإسرائيل يجمعون قواتهم.
خط واصل آخر امتد بين الصيغة التي اقترحت في خطاب السيسي والمبادرة العربية من العام 2002، هذا التناظر أريد منه تقديم شرعية عربية مشروطة لتوسيع التطبيع بين مصر وإسرائيل، كما ان الخلفية الجيوسياسية لتصريح السيسي تختلف في فحواها عن فحوى المبادرة العربية الاساسية. المحللة السياسية مي عزام - والتي نشرت سلسلة مقالات في "المصري اليوم" تحت عنوان "هل العرب مستعدون للسلام الدافئ؟" - تطرقت إلى الفوارق بين مبادرة 2002 والخطوات السياسية في أيامنا هذه، وحسب طرحها فالقضية الفلسطينية لم تعد تتصدر جدول أعمال الجمهور العربي، وانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان لم يعد واقعيًا في الوقت الحالي في ظل الحرب السورية، وأن تنظيمات "المقاومة" (حزب الله وحماس) تعتبر في منظور بعض من الدول العربية تنظيمات إرهابية متطرفة. وبناءً عليه - وكما ظهر من مقالات عزام وآخرين غيرها - فإن السلام "الدافئ" مع إسرائيل يخدم المصالح الاستراتيجية المصرية على مستويين آخرين.
على المستوى الأمني: التقارب مع إسرائيل سيسهم في دفع التعاون العربي الإسرائيلي في مواجهة أعداء مشتركين يهددون استقرار المنطقة وسلمها، وعلى رأسهم إيران والمجموعات الإرهابية السلفية الجهادية والاسلامية. وحسب تقديرات عزام "غالبية الحكومات العربية لا تعتبر إسرائيل عدوها اللدود، وتضع نصب أعينها دولًا أخرى على مقياس العداوة والبغضاء"، المحلل السياسي محمد علي إبراهيم - والذي استغرق هو الآخر في الحديث عن أهمية السلام الدافئ - عبر عن أمله بأن يسمح هذا السلام بأن تصبح العلاقات السرية القائمة منذ زمن بعيد بين المحور العربي السني وإسرائيل علاقات علنية، وأن تساعد هذه العلاقات الأطراف على بلورة جبهة إقليمية مشتركة تستخدم كسور منيع في مواجهة "البحر المتلاطم الذي تبتلع أمواجه الدول والشعوب"، بالإضافة إلى ان الانطلاق في العملية السلمية الإسرائيلية الفلسطينية ستعتبر من وجهة نظره "صفعة" على وجوه إيران ووكلائها الذين يتاجرون بالقضية الفلسطينية بهدف إسقاط الأنظمة العربية العلمانية وتقسيم الدول العربية على أساس طائفي ومحاربة السنة تحت الراية المتوهمة "الجهاد من أجل تحرير القدس".
على المستوى الاقتصادي: إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني قدّم من قبل المحللين السياسيين المقربين من النظام على أنه مدخل لإقامة منظومة تعاونية شرق أوسطية في مجالات الطاقة والتجار والمواصلات. إسرائيل- حسبما أوضح مساعد وزير الخارجية المصري السابق محمد حجازي - تستطيع أن تلتحق بالنظام الاقتصادي الجديد بأن تخضع لإنهاء الاحتلال، وأن تعترف بقرارات الأمم المتحدة والقبول بحل الدولتين والاستعداد للتفاوض حول إقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط. في المقال الذي نشره في يناير 2016 في "الأهرام" أعرب عن أمله بأن "الفوائد الاقتصادية، إلى جانب الطمأنينة والأمن والاستقرار في المنطقة، يمكن ان توفر تعاونًا إقليميًا تمثله المبادرة المصرية بالنسبة لإسرائيل، وتكون حافزًا للخروج من العزلة الإقليمية التي تعيشها". اللواء سمير فرج - والذي شغل في السابق منصب رئيس إدارة شؤون التعدين في الجيش المصري - أشار إلى آفاق التعاون بين مصر وإسرائيل وقبرص واليونان حول حقول الغاز في البحر المتوسط، في مقال نشره في "الأهرام" في فبراير 2016 قدر ان "البحر المتوسط أصبح الدولاب الأهم الذي سيؤثر في الفترة القريبة على الأمن القومي المصري"، وأوصى بتوثيق العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية مع دول حوض المتوسط القريبة منها وبتوقيع اتفاقيات تؤمن المصلحة المصرية العليا.
إحلال السلام "الدافئ" بين مصر وإسرائيل عرض على أنه تغيير للنموذج السياسي السائد وليس كخطوة تكتيكية، إذ ان "التطبيع مع إسرائيل وإيجاد حل للقضية الفلسطينية واستقرار مصر والسعودية وأمنهما القومي ومحاربة الإرهاب؛ كلها امور مترابطة ومتداخلة بعضها ببعض" كما تقول عزام، وقد اشارت إلى حاجة مصر، بل حاجتها الملحة لدفع "ثورة على المبادئ التي تربينا عليها وأصبحت جزءًا من مفاهيمنا الأساسية" بهدف أن توائم نفسها مع النظام المتجدد. كاتب عمود في "المصري اليوم" والذي يستخدم الاسم المستعار "نيوتن" قرر في المقال الذي نشره في أعقاب خطاب السيسي أنه وبعد عشرات السنوات من الجيرة مع إسرائيل؛ آن الأوان لأن تحدث مصر "برنامجها التشغيلي" بحيث يكون بإمكانها ان تجني ثمار السلام بين الدولتين، واقترح استبدال قانون "إعداد الدولة للحرب" والذي يسري منذ العام 1968 بقانون "إعداد الدولة للسلام والبعث والتقدم"، حسب قوله فإن التفاهمات الأمنية الجديدة بين مصر وإسرائيل بشأن نشر القوات في سيناء أثبتت أن "هناك ثقة بين الطرفين، وهناك تنسيق يخدم مصالح كلا الدولتين، حيث الواجب تطويرها وإيجاد القنوات الكامنة فيها من خلال إنهاء وضع اللا حرب واللا سلم".
أصوات السلام التي جاءت مؤخرًا من مصر، والتي صدر بعضها من مكتب الرئيس السيسي ومن محيطه، شاهدة على أنه في أوساط هذه الدوائر يتسع في أرض النيل هبوب ريح جديدة تحمل في طياتها فرصًا حقيقية لتغيير موقف إسرائيل في المنطقة، برامج تحمل عناوين مثل "الشرق الأوسط الجديد" و"التعاون الإقليمي" والتي أثارت النفور والتشكك في العالم العربي عندما كانت تقترح في الماضي من قبل إسرائيل؛ تقدم الآن كمدخل لمبادرات عربية.
رغم ذلك تجدر الإشارة إلى ان هذه البرامج ما تزال محل خلاف جماهيري عنيف في مصر والعالم العربي، والأنظمة العربية ستجد صعوبة بالغة في تبنيها ما لم تصحبها خطوات حقيقية تدل على تقدم حقيقي في العملية السلمية الإسرائيلية الفلسطينية، وقف البناء في المستوطنات والشروع في المفاوضات الجدية حول إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الـ 67 وعاصمتها القدس تذكر في مصر على أنها شرط نهائي لتوسيع أسس التطبيع. إنجاز حل نهائي للقضية الفلسطينية يعتبر مفتاحًا إلزاميًا لممر مستقبلي كامل لسلام "دافئ". أزمة القيادة في الجانب الفلسطيني، وكذلك الانقسام بين غزة والضفة؛ يضعان عقبة إضافية أمام تحقيق هذه الرؤية، إسرائيل من جانبها مطالبة بالإدلاء برأيها بالفرصة السانحة، وأن تنضم كلاعبة شرعية إلى النظام الاقليمي المتجدد، وفي ذات الوقت القبول بدفع الأثمان المنطوية في تحقيقها.
مركز دراسات الأمن القومي الاسرائيلي اطلس للدراسات