لم يتأخر إذاً الرد الأميركي على الخطوة الحمقاء التي اقدم عليها بنيامين نتنياهو، والقاعدة هنا تقول: حذار أن ترحم الأحمق، وهكذا في موقف علني وغير مسبوق قالت الإدارة: إن هذه الفعلة تطرح تساؤلات لدينا وشكوكاً حول وجهة السفر والاتجاه، إذا كان كل أعضاء هذه الحكومة لا يؤمنون بحل الدولتين، وإن حكمنا من الآن عليها يعتمد على أفعالها وليس على أقوالها. وهذه العبارة الأخيرة تعني أن لهذا الموقف ما بعده.
وإذا كنت أيها الأحمق أردت من هذه الخطوة تحشيد الصف اليميني المتطرف الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، كنوع من تحدينا والعالم بإلقاء هذا القفاز في وجوهنا قبل عقد المؤتمر الدولي، الذي قررنا المشاركة فيه. فإنك من اختار البدء بإطلاق الرصاص وعليك أن تتحمل دفع ثمن تحدي الإرادة الدولية.
هذا رجل يمضي قدما وبإصرار ومثابرة كما يحدث في المآسي التاريخية إلى هدم وتحطيم أسس الأعمدة المقدسة الاستراتيجية، التي قام عليها هيكل تحالفات إسرائيل في غضون السبعين عاما من تأسيس وإنشاء إسرائيل، وبعد الانقلاب على بريطانيا التي أعطت الوعد وبعد ذلك على فرنسا، ها إن مرض وآفة جرثومة الدمار الذاتي التي يمثلها التحول إلى الفاشية، تهدد بإنهاء حقبة الأمومة الأميركية لهذا الابن الضال. وليست المسألة باراك أوباما ولكن أيضا ما يحدث اليوم داخل الحزب الديمقراطي، وكذا التململ من هذه العلاقة في أوساط النخب الأميركية على حد سواء.
هل إذاً تحت الشعور بوطأة التحولات في الخارج في أوروبا وأميركا والخوف من ممارسة الضغط على إسرائيل، وفق سيناريو إنهاء الحكم العنصري في جنوب إفريقيا، قرر نتنياهو الاحتماء أخيرا خلف هذا المتراس أو الملاذ والحصن الأخير، ممثلا بالمعسكر اليمين الأشد تطرفا باعتباره النواة الصلبة هنا للمشروع والأيديولوجية الصهيونية. ولهذا السبب مدفوعا بغريزة الخوف والذعر تصالح مع ليبرمان هذا الرجل الذي يصلح أن يمثل دور المهرج على المسرح السياسي وربما الأزعر، والذي يمكن الاختباء وراءه لاتخاذه ساتراً ولكنه لا يساوي أو يصلح لعمل شيء آخر.
ولأن هذا هو الافتراض الحقيقي بالأخير رأينا الرد الدولي الخارجي بشقيه الأوروبي والأميركي من هذا العيار، قال رئيس الوزراء الفرنسي بوضوح وبكلام يقال للمرة الأولى في لقائه مع نتنياهو وأمام الفلسطينيين في رام الله: إن ما يجري هنا هو مسألة في صميم الأمن القومي لفرنسا، انتهى الأمر نقطة وأول السطر. ولذا فإن الحديث عن حل الدولتين والسلام وإنهاء الاحتلال والمؤتمر الدولي وحل القضية الفلسطينية، ليست مسالة ترف فكري أو ثرثرة سياسية، وإنما بالنسبة لأوروبا وفرنسا مسألة تتعلق بتحصين أمنها الداخلي.
كم يساوي إذاً هذا الاصطفاف اليميني في إسرائيل في مواجهة هذا التيار الكاسح الذي يدفع لإنهاء الصراع والاحتلال؟ والقادم مرة أخرى من الغرب كما كان الحال عند مستهل إيقاد نار هذه الأزمة قبل مئة عام؟
والجواب لا شيء. لا يمكن لهذا الجناح الصلف الأحمق والغبي أن يصد هذا التيار وهذه الموجة، لأن الحرب والحرائق إنما وصلت الآن على أعتاب البيت الأوروبي، وإن الحرب على الإرهاب إنما تقتضي إزالة الأسباب الرئيسة التي تغذي هذه الموجة الجديدة، وإطفاء جذوة هذا الصراع الأصلي والجذري في الشرق الأوسط، وإنهاء الاحتلال ووضع أو رسم أو تحديد هذه المسافة أو التخوم بين الغرب وإسرائيل، والتي طالما أذكت العداء بين الشرق والغرب وأعادت إنتاج هذه الحركات أو المجموعات المتطرفة في البيئة العربية والإسلامية. إلى هنا وبالتوازي مع التوافق الأمريكي والروسي لإنهاء الأزمة السورية، إعادة تركيب هذا التوافق أو التحالف الدولي الواسع في باريس يوم 3حزيران لإنهاء الأزمة الأم في فلسطين.
وكم يبدو الرفض الإسرائيلي والخطاب الذي يغلف هذا الرفض أبلهاً وبعيداً عن الاتصال بالواقع، حين يحاول نتنياهو التصدي على طريقة «دون كيشوت» للإجماع الدولي في باريس بالمبادرة المصرية أو التسوية الإقليمية، في محاولة لاستغباء العالم وإهانة عقول الأمم والناس.
ولكنه بينما كان غارقا في الانسياق وراء غريزته المريضة بالغرور والتكبر، للرد على الأوروبيين والأميركيين لجرأتهم على السماح لأنفسهم التدخل من اجل تغيير موازين القوى السياسية الداخلية، بالإملاء عليه التحالف مع هيرتسوغ لانضاج طبخة المؤتمر الدولي، والتسوية بانتهاج هذه المناورة الدنيئة في اللحظة الأخيرة بإهانة هيرتسوغ، بإظهاره كمغفل والالتفاف لعقد التحالف مع ليبرمان. وكأنه يقول لهؤلاء جميعا في الخارج على طريقة معمر القذافي «من أنتم؟».
لم يفطن هذا الساحر الأخرق أنه بمناورته هذه كان يخاطر من حيث لم يحسبها جيدا بإحداث هذا الشرخ أو الاصطفاف الداخلي لأول مرة منذ توليه سدة الحكم، لا على النحو التقليدي السابق بين يمين ويسار وإنما هذه المرة في تنضيد أو توصيف جديد بين مجانين وعقلاء، بين فاشيين على غرار الاصطفاف الأوروبي في ثلاثينيات القرن الماضي، وبين سياسيين معتدلين أو واقعيين، فيما يشبه صحوة جديدة تحدث في إسرائيل وجدت تعبيرات لها على لسان سياسيين ومعلقين إعلاميين، وحتى شخصيات عسكرية وأمنية كبيرة وذات وزن في التأثير على الرأي والمزاج العام في الدولة.
وهكذا في هذه الأجواء سوف يحدث التحول الدراماتيكي المضاد للمعسكر المتطرف، حينما يظهر هيرتسوغ وبدافع من الثأر لنفسه ولأول مرة كزعيم جدي وحقيقي للمعارضة في الخطاب الذي ألقاه أمام الكنيست، ويتهم فيه صراحة نتنياهو وحكومته بأنهم مرضى بالفاشية. في صورة بدا فيها الرجل وكأنه يكفر عن رخاوته وميوعة مواقفه السابقة، ويعلن استعداده الآن للقتال رداً على نتنياهو، وأكد بحزم أن الباب أغلق الآن أمام أي شراكة بين العمل والليكود فما الذي سيحدث إذا بعد.
حاول نتنياهو أن يهدأ من روع الإسرائيليين أو ما سماه بحملة البكاء والعويل، بتأكيده أنه هو المسؤول الأول عن الأمن وأنه ووزير أمنه الجديد سوف يتخذان قراراتهما باتزان ومسؤولية، وكرر الحديث عن الفرص السانحة لعقد التسوية مع الإقليم العربي، وأنه لا شيء سوف يتغير.
والواقع وبعيدا عن هذه النزعة الدفاعية فإن واقع الحال يقول بداهة إن قرار الحرب مع غزة أو الشمال مع حزب الله، اصبح يتجاوز قدرة إسرائيل أياً تكن طبيعة الائتلاف الحاكم. وليس السبب في ذلك يعود لمجرد الاعتقاد أو الافتراض البدهي بأن من يفكر باتخاذ قرار الحرب عليه أولا أن يضع على رأس المؤسسة العسكرية رجلا يفهم بالحرب، وليس مجرد شخص لم يلتحق في حياته ولو بدورة صف ضباط، وكل خدمته في الجيش لم تتجاوز السنة الواحدة. وإنما للأسباب أو العوامل التالية وهي:
1- أن الاستقطاب أو التفكك الداخلي الذي ساهم نتنياهو بخلقه في الداخل كمتغير جديد على مستوى الخارطة السياسية في إسرائيل، إنما هو الذي ينزع الغطاء عن أي مغامرات عسكرية. وأن دلالة هذا التحول الداخلي هو الطابع الاتهامي للرجل وفريقه، وهو اتهام من شأنه إدانته مسبقا أو بكبح نزعته إلى المغامرة.
2- أن المناخ أو المزاح الدولي الراهن إنما يوجد عند لحظة حاسمة يمكن تلخيصها بإزالة عقبة نتنياهو أمام تحقيق هدف المؤتمر الدولي، وهذا يعني أن قرار إزاحته أو إسقاطه ربما يكون قد اتخذ في الدوائر المغلقة لعواصم القرار الدولي، وأن نتنياهو ربما بات يعرف ذلك ولذا فإن قرارا متهورا أو أحمق من شأنه أن يعجل بعملية إسقاطه.
3- وإذا كان القول (إن وزراء الحرب ليس بالضرورة أن يكونوا خبراء في الحرب لأن منصبهم سياسي) صحيحاً، إلا أن واقع الحال اليوم في إسرائيل هو أن مؤسسة الجيش وكبار العسكريين يندرجون في هذا الاستقطاب من حسن الحظ إلى جانب التيار الواقعي، وهم يدركون أن خطاً قد رسم على الرمال ما بعد الحرب الأخيرة مع «حماس» وحرب تموز 2006 مع حزب الله.
4- والواقع هناك سبب آخر لا يقل أهمية عن الأسباب السابقة، يتمثل بطموحات هذه الشخصية نفسها موضع الجدال، أي ليبرمان الذي يعرف بموهبته كوصولي وانتهازي أو بعدة التهريج التي يلجأ إليها، أن نتنياهو إنما أتى به الآن ليوظفه في مناورته القادمة بالتخفي وراءه، لإظهاره بوصفه الرجل الشرير والمتهور وغير اللطيف، بينما هو يمثل القائد المسؤول والعاقل والمعتدل. ولكنه كانتهازي ووصولي محترف يطمح بالأخير ربما لإسقاط نتنياهو ووراثته على رأس حكومة إسرائيل، أظنه من المكر بحيث لن يلعب هذه اللعبة التي يخرج بها بسواد الوجه أمام العالم، وبهذا المعنى إذا صح هذا الافتراض فإن الذي سيخرج من الآن بكل سواد الوجه في هذه القصة هو نتنياهو، وإن غداً لناظره قريب.


