خبر : وداعاً كلوفيس جسداً لا روحاً ..باسل عقل

الإثنين 23 مايو 2016 08:45 ص / بتوقيت القدس +2GMT





برحيل صديق العمر كلوفيس مقصود تكون مرحلة كاملة كان كلوفيس أحد رموزها ومعالمها قد رحلت معه أيضاً. وللأسف الشديد، فأغلب الظن أن هذه المرحلة لن تعود، أقله كما كانت.
مرحلة كلوفيس هي مرحلة جورج أنطونيوس وميشيل عفلق وأنطون سعادة وقسطنطين زريق وساطع الحصري وجورج حبش ووليد الخالدي وبرهان الدجاني.
مرحلة كلوفيس التي كان هو أحد نجومها كانت مرحلة القومية العربية كمذهب، والعروبة كانتماء، والوحدة كهدف حتمي، وذلك استناداً إلى أن ما يجمع أمة العرب هو التاريخ الواحد والمصير المشترك والأرض الواحدة والمصلحة المشتركة.
ولقد جمع كلوفيس مارونيته المتأصلة فيه بعروبته التي تجري في شرايينه، وقوميته الضاربة فيه حتى النخاع، وفلسطينيته الأصيلة، فخرج من هذا الخليط مناضلاً عنيداً، ومبشراً مؤمناً، وداعية لا يلين، وكاتباً له قلم سيال، ومفكراً صاحب رؤية ورأي سديد اسمه كلوفيس مقصود.
وبالإضافة إلى صفاته الآنفة الذكر، كان كلوفيس خفيف الظل سريع البديهة حاضر الذهن. كان له في كل عرس قرص، وفي كل اجتماع موقف مميّز، وفي كل مناسبة قفشة. ويروي كلوفيس أنه حين قدم نفسه يوماً في مناسبة اجتماعية إلى السيدة أم كلثوم سألته: واسمك الحقيقي إيه؟ ظناً منها أن الاسم كلوفيس هو اسم الدلع على الطريقة المصرية مثل فوفو وسوسو!
ويروي أيضاً كلوفيس وهو يضحك أن والده سأل والدته ساعة ولادته عن جنس المولود الذي أنجبت فأجابته: رزقنا بطفل بشع.
وروى لي كلوفيس مرة حين كان الشاذلي القليبي أميناً عاماً للجامعة العربية وكان كلوفيس ممثلاً لها في الولايات المتحدة، أنه دعا القليبي وهو صاحب ثقافة فرنسية ولغة إنكليزية ضعيفة إلى مسرحية في نيويورك. وكان كلوفيس يعاني من ضعف شديد في النظر طيلة حياته. وبعد فترة في المسرح حبكت مع كلوفيس كعادته فالتفت إلى القليبي قائلاً ومداعباً: «إذا قلت لي شو إنت قاشع (شايف) فسأقول لك شو أنا فاهم (بحكم إنكليزيته الجيدة)...
ومن نوادر كلوفيس أيضاً أنه حل عليّ ضيفاً مقيماً في منزلي في لندن في العام 1972 حيث كانت الحرب مشتعلة بين الهند وباكستان حول بنغلادش. ورافقني يوماً إلى محل بقالة باكستاني. ففتح كلوفيس حديثاً مع صاحب البقالة الذي كان واثقاً من انتصار باكستان على الهند «بسبب قيادة يحيى خان العظيمة». وكنت رجوت كلوفيس ألا يظهر مشاعره المؤيدة للهند بسبب صداقته مع أنديرا غاندي ففعل والتزم، وبقيت العلاقة مع البقال جيدة وكان يؤيد نضال الشعب الفلسطيني ويسمّي ابني الطفل أمين «المجاهد الصغير». وبعد يومين أصبح واضحاً أن الهند قد انتصرت، فطلب مني كلوفيس أن نذهب إلى البقال لنسمع رأيه. فوافقت شريطة أن لا يشمت به، وعندما دخلنا البقالة كان موقف باكستان منهاراً، بحسب الأنباء. وعندما سأله كلوفيس: ما هي الأخبار؟ أجابه البقال محاولاً تبرير هزيمة بلاده: الآن اكتشفنا أن يحيى خان عميل أميركي! وهنا التفت إليّ كلوفيس وعلى وجهه ابتسامة ساخرة وهمس في أذني: الآن ارتحت ارتياحاً شديداً، لأنني اكتشفت أن هناك عقلاً أحقر من العقل العربي وهو العقل الباكستاني.
نوادر كلوفيس ولغته الغنية، العربية والإنكليزية، وظرفه ولطفه تحتاج إلى كتاب منفصل. أما مواقفه السياسية وخطبه في الهند، حيث عمل ممثلاً للجامعة العربية وفي الأمم المتحدة ممثلاً أيضاً للجامعة العربية وفي الولايات المتحدة حيث حاضر عن القضية الفلسطينية في طول البلاد وعرضها، فهذه لا يمكن حصرها.
وبفضل الأحداث التي شهدتها المنطقة في السنوات الثلاثين الماضية تراجع مفهوم القومية العربية إلى الصفر، ولكن كلوفيس ظل يحمل راية القومية العربية، واختفى من لغتنا تعبير العروبة، ولكن كلوفيس ظل يتنفس عروبة وقومية... وأصبح حلم الوحدة ذكرى في الوضع العربي المأساوي الحاضر، ولكن كلوفيس رحل إلى العالم الآخر، وهو يتحدث عن الوحدة العربية وكأنها حدث تأخّر ولكنه قادم.
كم نحن بحاجة إلى أمثال كلوفيس فكراً وقومياً وعربياً ووحدوياً وفلسطينياً. كم نحن بحاجة إلى أمثال كلوفيس ليمدوا أيديهم ويساعدوا هذه الأمة على القيام من عثرتها التي طالت. كم نحن بحاجة إلى أمثال كلوفيس ليوقظوا الأمة من سباتها لتعود إلى رشدها حتى تتصدى إلى مرض الصراع المذهبي والعرقي الذي بدأ ينخر في جسدها. كم نحن بحاجة إلى أمثال كلوفيس ليذكروا الأمة أن ما من شعب في الدنيا يرزح مثل الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال منذ سبعين عاماً، وأن الأقصى والقيامة لا يزالان تحت الحراب الإسرائيلية... وأنه عار على العرب جميعاً شعوباً وحكاماً أن يظلوا متفرجين على الشعب الفلسطيني في قفص الاحتلال من دون أن تثور كرامتهم أو تتحرك مشاعر وطنيتهم. كم نحن بحاجة إلى أمثال كلوفيس حتى تفيق الأمة، وتدرك أنه لم يبق إلا القليل القليل من الطابع العربي الإسلامي والمسيحي للقدس، وأن القدس قد ذابت أو أوشكت أن تذوب في الكيان الصهيوني ضماً ومصادرة واستيطاناً.
رحمك الله يا كلوفيس، وأملنا أن تظل روحك ترفرف في أرجاء العالم العربي نضالاً وعناداً وإيماناً بأن العرب أمة واحدة ومصير واحد، مهما تآلبنا على أنفسنا وتآلب علينا الأعداء.
نودعك يا كلوفيس جسداً وليس روحاً، لأن أمثالك من عمالقة الفكر والالتزام والنضال لن ينقرضوا. إلى جنات الخلد يا كلوفيس.