بتنا نعرف إذن، بل نتأكد أنه في خلفية التطورات الدراماتيكية التي حدثت نهاية الأسبوع، إنما كان الخوف والخوف الحقيقي فقط لدى بنيامين نتنياهو من جدية المبادرة الفرنسية والاتحاد الأوروبي ومعهم وخلفهم إدارة باراك أوباما، ليس في عقد المؤتمر ولكن لفرض حل الدولة الفلسطينية حتى ولو اضطر الأمر ان يمارسوا نوعاً من الإكراه والضغط الدبلوماسي القاسي على إسرائيل. وبينما بدا للبعض كما لو أن تدخل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي جاء لنقل المسألة من التدويل إلى الإقليم.
الا أن بنيامين نتنياهو وفي خطوة دراماتيكية أُخرى وغير متوقعة فاجأ الجميع، وفاجأنا نحن باختياره التحالف والوحدة مع افيغدور ليبرمان بدلاً من الأبله يتسحاق هيرتسوغ وتسيفي ليفني، في انقلاب على اللعبة قبل ان تبدأ. وليعيدنا جميعا الى النقطة الأولى، المربع الأول من جديد، ولكن هذه المرة مسلحاً بليبرمان اليهودي الروسي، الأكثر شبهاً بجنون دونالد ترامب، ومتخلياً عن موشي يعالون «العاقل» وحزب العمل.
الى قرع طبول الحرب إذن بدلاً من مناورة السلام؟ والجواب ليس بالضرورة. إذا أدركنا أن الرجل مع ذلك لا يعدم الحيلة والمناورة السياسية والتذاكي على العالم، فإذا أعطى باليد اليمنى وزارة الحرب أو الجيش الى ليبرمان المجنون، فانه قبل استقالة يعالون كان يوحي بإعطائه وزارة الخارجية، ليقول للعالم: دعوكم من هذا التوجس والخوف من ليبرمان اذا كان قرار الحرب أنا من يقرره وليس هذا المعتوه.
وان وزارة الخارجية هي الأهم في تقرير مصير لعبة السلام إذا كانت الحرب في حقيقتها أداة للدبلوماسية وليس العكس، في محاولة أخرى لتبريد العالم.
كل ما فعله أنه أراد تحصين أو تدعيم حكومته عبر الاحتماء بالعائلة الأيديولوجية الأصلية وهي اليمين المتطرف في مواجهة العاصفة القادمة من باريس وواشنطن، وبعد ذلك لكل حادث حديث. والحديث هو التوجه الى ما يتوافق عليه هو وليبرمان بالتسوية الإقليمية.
وهي تسوية ليست إلا من قبيل بيع الوهم وإدامة الوهم مجدداً وكسب الوقت لاستغلالها في مناوراته الداخلية، او في أحسن الأحوال او أشرها في الواقع يريدها «كصلحة عرب» يستخدمها كعراضة يصدّ من خلالها الهجوم الأوروبي والأميركي. وحيث يدرك نتنياهو كما ندرك نحن بعد مرور مئة عام على اتفاقية سايكس بيكو، التي مهدت لإنشاء إسرائيل بقرار أوروبي ودولي، أن من يقرر اليوم أيضا تصحيح هذه الاتفاقية أو الخطأ التاريخي إنما هم الغرب أي أصحاب ملكية القرار الدولي.
وإنه عندما يصرح سفير الاتحاد الأوروبي كما حدث قبل أيام من أن الاتحاد الأوروبي لن يسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية، ويلوح الأميركيون في نفس الوقت بموقف جدي من الاستيطان والذهاب ربما الى استصدار قرار تاريخي من مجلس الأمن، يرسم حدود الحل للصراع. فإنهم يعنون ما يقولونه ويملكون القوة والقدرة في الذهاب بعيداً لفرضه على إسرائيل وغيرها.
وفي حقيقة الأمر، إن هذه المسألة هي التي ترتعد لها فرائص الرجل الذي بات يدرك أن المسألة جدية، والواقع ان العرب وعلى وجه التحديد ربما القوم السني الأكثري والذي يملك القرار، هو أكثر استعداداً ونضجاً اليوم للتوصل مع إسرائيل الى تسوية تاريخية، تكون أوسع من اتفاقية كامب ديفيد مع مصر كما قال الرئيس المصري في مبادرته الدراماتيكية، أكثر استعداداً حتى من العام 2002 حينما أطلقت السعودية والقمة العربية في بيروت ما سيعرف بعد ذلك بالمبادرة العربية للسلام.
وقد شرحنا هنا قبل وقت دوافع هذا الميل العربي والإقليمي لعقد هذه التسوية بل التحالف مع إسرائيل، لكن السؤال كان ولا يزال هل نتنياهو واليمين الإسرائيلي ناضج في إسرائيل للتعامل بجدية مع هذا التحول والتقاط الفرصة؟ وحيث الفرص التاريخية كما في الحياة العادية يجب الانحناء لالتقاطها، والانحناءة المطلوبة هنا هي ما تطالب بها المبادرة العربية للسلام منذ العام 2002 ، وما يطالب به الفرنسيون والأوروبيون والأميركيون من وراء عقد المؤتمر الدولي للسلام.
وإذن، فالمسألة واضحة لو كان الرجل ناضجاً حقاً وصادقاً غير مخادع، لوافق على المبادرة الفرنسية والمؤتمر الدولي إذا كان ثمن السلام مع الإقليم هو نفسه مع عرفات وأبو مازن في المفاوضات العبثية، وهو نفسه مع جون كيري وعبد الفتاح السيسي والسعودية وتركيا. فهل إذن وراء الأكمة هنا ما وراءها؟ بخلق هذا التعارض او المنافسة وتفضيل السلام الإقليمي على السلام الدولي، وان ما وراء الأكمة ليس الا ضرب مبادرة بالمبادرة الأُخرى للقضاء عليهما معاً، وإفساد الحفل هنا وهناك بالأخير.
إن بنيامين نتنياهو يدرك الفارق الآخر بين هنا وهناك، وهذا الفارق لا يحتاج الى ذكاء خارق لملاحظته، إذ بالأخير نحن نتحدث عن تسوية تاريخية، وهذا هو الافتراض. وعليه فإن السؤال او المقاربة: من يملك هنا وهناك القدرة على ممارسة الضغط وورقة الضمانات، ضمانات كيسنجر الشهيرة؟ والجواب واضح، إن نتنياهو يدرك أن العرب لا يملكون القدرة على ممارسة الضغط والإكراه ولا الضمانات، وان كان عبد الفتاح السيسي لوّح لإسرائيل بإمكانية تحقيقها وامتلاكها أن هي استجابت لشروط التسوية والسلام، في إشارة واضحة إلى أن مصر يمكن أن تمارس ثقلها بضمانة أمن إسرائيل.
لكن يحدث في هذه الأثناء شيء ما يشبه مشاهد الأفلام الميلودرامية سيئة الإخراج، أو ألعاب السيرك أو المهازل السياسية، التي لا تخلو مع ذلك من عناصر الترقب والإثارة والتشويق، حين يبدو هذا البطل أو اللاعب الرئيسي في القصة والذي يبدو في البداية وكأنه يتمكن من خداع الجميع، بل وتكسير الرؤوس ودحرجتها، لا يفعل بالأخير سوى تعرية نفسه الظهور عارياً حتى من ورقة التوت، وإطلاق الرصاص على قدميه في مشهد نادر قلّ أن يحدث مثله في أيامنا.
وبعد خداعه وإطاحته بهرتسوغ ها هو يعلون الذي أراد الحفاظ على كرامته يعلن عن استقالته كاشفاً ومعرياً إياه أمام العالم.
ولسنا ندري بعد الآن ماذا سيقول لهؤلاء جميعا؟ وهو الرد المتوقع والمنتظر يوم 3 حزيران المقبل في باريس من لدن عشرين وزيراً للخارجية، فيما يبدو اليوم أن اللعبة توشك على الانتهاء.


