إتخذ شهريار الملك ، مجلس سلطان الأرض ، وقد غُرِسَت الشموع في العنبر ، فأشرق المخدع بأنوارها و تعطّر ، وفي هذا الجو الحَالم ، و الملك بين مُتيقِّظ و نائم أقبلت شهرزاد في ثوب شفيف ، وخطو خفيف ، فأسدَلَت السَّتائر ، و أصلَحت النار في المَجَامِر ، فَعَبَق المخدع بالبخور ، و النِّد و الكَافور ، ثم اشارت أجملَ إِشارة و جعلت تَتَرسل و تَتَحضر وقالت بأفصح عبارة :
بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد ، أن الفتى ياسر روى للزعيم ناصر ، وحكى له حكايته ، وعرض عليه محنته و النكبة التي لحقت بارض النور و القداسة ، بفعل قوم إمتهنوا النِخاسة ، يخدمون مَن جُبِلُوا على النجاسة ، فذكر الفتى ياسر ، للزعيم ناصر أنه الثائر ، و أنه صاحب البلاد و حارس بوابة سماء رب العباد ، و ذكره بما كان لأمته من سلطان وكرامة ، و كيف وصلت إلى ماهي عليه م الهوان و الندامة ، و حدثه عن المسجد و عن الدير ، و عن الغدر و الخَساسة ، و الهجرة و المهانة ، وذكر له كيف خرج إلى الفلاه ، و كيف إنقطع عن رفقائه و كيف تاه ، وكيف أخذه النخاس المنحوس ، ليبيعه في جزيرة الأبانوس ، و كيف ذُبِحَ على ضِفاف شَرق النّهر إخوانه ، و كيف إضطُر أن يفرّ بأهله و رفاقه إلى غابة الأرز ، و كيف لاحقوه وطاردوه حتى وصلوا العاصمة ،وسط صمت الأشقاء ، الذين أضحوا عبيداً أرِقّاء ، للمال و السلطان ، و المصلحة و الملذات ، و أنه صبر و قاتل وقوفاً ثمانين من الأيام يقارع جيوش اللئام ، وكيف أنقذه اليونان و العجم و الرومان وحملوه و أهله في سفينه ، إلا إخوانه الذين خانه منهم من خانه ، و حاول النخاس أن يستمر في بيع من تبقى من أطفاله ، الذي تفرقوا في الأرض هروباً من يد هذه العصابة اللعينة ، وحكى له حكايته مع عيزرا ، و رابين ، و عرابهم راعي البقر ذو القرنين ، وما شاهد من الأسرار ، و الحية ذات الضفائر ، حين ذهب إليها ، وصعد عليها ، ليحضر جوهرة المعاهدة من بين قرنيها ، وكيف طارت به الحية الرقطاء ، وهي عمياء ، و إصطدمت بشهاب يدور في الفضاء و تمزق جسمها أشلاء ، إلى أن نجى على سحابة كانت تسير ، إسمها غيمة الحل الأخير ، وسلطة المشلول الضرير، في زمن التردي الخطير ، الذي علا فيه الحقير ، و تطاول على الكبير الصغير ، فوصلت به الغيمة إلى يابسة من أرض بسيطة ، ما بين الساحل والجبل الكبير ، وكان الفتى ياسر يحدث الزعيم ناصر و هو يبكي بين يديه و يبث حزنه و همه إليه فلمست دموع الفتى قلبه ، ومال له الزعيم الذي أحبه ، وجعل يفكر في طريقة تخرج الفتى من ورطته ، و تساعده على رد غربته .. وغالب النوم الفتى ، فاسلم عينيه لسلطان الكرى ، ولم يدرِ كم من الوقتِ قضاهُ نائماً ، ولكن أصواتاً تناهت إلى سمعه فإنتبه خائفاً ، و فتّح عينيه ، ونظرَ حواليه ، فعرف أن الزعيم كان حلماً و إنتهى ، و إذا الليل يبسط على الوجود جناحيه ، ووصل إلى سمعه أصوات ، و إنتهت إليه صرخات و هتافات ، وقعقعة سيوف و سلاح و عويل ثكالى و صراه ولدان ، و إذا برجال كأنها الغربان ، تلثمت بالغدر و النكران ، خرجت من بين الشعاب و إعتلت كل بنيان ، و نقضت العهد و أخسرت في الميزان .. قد إنسلوا في جانب البحر و رفعوا رايات حق أرادوا بها العصيان ، وأعلنوا الفراق و الشقاق ، وذبحوا الأخ و الأبن و الصديق ، و نسوا العدو سارق المجد و محتل البيت العتيق .. ورفعوا الكتاب على اسنة الرماح ، و قالوا لكل من أتى و لاح ، إنما نحن أهل الفلاح والإصلاح ..
و تاهوا و تاه معهم الفتى ياسر ، و أهل ياسر ، و فرح النخاس بالبيع الجديد ، و صار في أحلامهم يتاجر ..
ودارت الأيام ، ومر عام و جاء عام ، و عام سابع و عاشر ، و مازال الفتى ياسر ، ينام و يحلم بيوم تُقبل الطيور في عيد الزهور ، وينادى الزعيم ناصر صاحبه الفتى ياسر ، ليدبر له حيلة تصله بمحبوبته الجميلة ، في بلاد كنعان ، حيث الحب و الإيمان ما بين الجبل و الساحل ..
و إستمرت شهرزاد ، في قص الحكاية و الرواية ، على مليك قلبها و حبيب عمرها ، و هو مطرق يتأملُ في حديثها و يتدبر ، حتى إنهزم الليل و أدبر ، و نعى الليلة ديكُ الصباح ، وبكى عليها و ناح ، فنبه الغافلين بالنواح ، و أيقظ النائمين بالصياح فَلَانَ كلامها ، و فَتَرَ لسانها ، وعندئذٍ إستأذنت شهرزاد أن ترجئ الحديث وطلبت المهلة لتقص باقي فصول النكبة .. و تنهدت قائلة : مولاي ..
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .


