مسيلمة الكذاب ، جاء في وقت ، كانت الدعوة الحق في بداياتها .. و ظن أن العملية التي يوقم بها محمد عليه الصلاة و السلام ، و أتباعه ،ما هي إلا ثورة .. أو محاولة لفرض ثقافة ، أو نظرية ، أو أفكار جديدة على مجتمع العرب متعدد القبائل و المشارب و المذاهب بشكل روحي كهنوتي .. فأحدثت نوعاً من " الإنقسام " في محتمعات الجزيرة العربية و محيطها .. !!
مسيلمة الكذاب ، واسمه الحقيقي مسلمة بن حبيب الحنفي من بني حنيفة أو مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب الحنفي، في تحليله للموقف و وفق حساباته ، لم يكن بالسخيف أو الغبي ، فهو رجل نهل من العلم و المعرفة و التجربة الكثير ، و ترك تأثيرًا ملموسًا في أوساط بني حنيفة، والقبائل المجاورة، اشتهر بالخلابة، والقدرة على استهواء النفوس من الرجال والنساء، وخليق بهذا أن يظن به السحر، وتنتظر منه الخوارق بين الجهلاء؛ لأنهم يرون سلطانه ولا يعلمون مأتاه، فيخيل إليهم أنه سر من الغيب، أو معونة من الجنة والشياطين، و يذكر في بعض الروايات أنه كان على دين النصرانية ، بل و تعمق في دراستها و الإنقطاع لها و سافر إلى القدس في فلسطين ، و درس العلوم الدينية في كنائسها و على ايدي قسيسين و رهباناً ، و درس التوراة و الكثير من علوم الكهانة و الفلسفة ، و أنه كان يتكلم عدة لغات إلى جانب العربية وهو على هذا كان يعين حيلته بما استطاع من صناعة الشعوذة، والألاعيب التي كان يحذقها بعض الكهان في بلاد العرب والعجم، ولم يكن في طبيعته بمعزل عن طبائع السحرة، وأدعياء الغيب، وتَسَمّى بالرحمن، فقيل له: رحمن اليمامة.
إذن ، حلل مسيلمة الموقف ، و بما أنه كان يسعى إلى السلطة ، و السياسة و الحكم ، و اراد أن يقسم البلاد و العباد بينه و بين رسول الله ، فدعاه إلى " مصالحة " على قاعدة " المشاركة " ، فبعث له برسالة قال فيها : " "مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، وَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الْأَرْضِ، وَلِقُرَيْشٍ نِصْفَ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ".
وأبى النبي عليه الصلاة و السلام أن يترك الفرصة لمثل هؤلاء الكذابين للتشكيك في أمر الدين و سياسة البلاد و العباد ، فكتب رسالة وأعطاها إلى حبيب بن زيد رضي الله عنه أحد الصحابة الشباب، وفيها: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، إلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ: السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْأَرْضَ للَّه يُورَثُهَا مَنْ يُشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ". وكان ذلك في آخر سنة عشر من الهجرة.
و الغريب أن مسيلمة لم يتوقف عن دعوته الباطلة ، و واصل الكذب و الدجل ، و تبعه ألوف مؤلفة من الناس نتيجة للإصرار على الكذب ، و الإلحاح في التبجح ، و الوسوسة في الأذن ليل نهار ، بكل الوسائل ، بل و كان له جيش و سلاح و تحالفات و إتصالات .. طيلة مدة دعوة الحق التي حملها النبي عليه الصلاة و السلام و بالتوازي معها ، بل إنه قُتِل بعد وفاة الرسول عليه الصلاة و السلام .
و يبدوا أن ثقافة مسيلمة الكذاب إستمرت حتى بعد إعدامه على يد وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه ، في معركة اليمامة ، و يبدوا أن مسيلمة الأسلوب و المنهج ، لم يمت ، و إستمر يعيش بيننا حتى يومنا هذا ، حتى يكاد الواحد منا أن يقول بثبات و ثقة : إن مسيلمة الكذاب هو زعيم الأمة الآن ، تراه أو ترى رسالته و ملامح تصرفاته في كثير من مناحي حياتنا ، سواء في المجال السياسي ، الإقتصادي و الإجتماعي ..و ترى لها من الأتباع و المؤيدين ، من الجهلة و الموتورين ، الكثير الغالب ، و السواد الأعظم ..
إن مسيلمة و أتباعة ، هم عرض طارئ، مرض موسمي ، يصيب الأمة كل حين وحين ، مرة يضرب في عقلها و ثقافتها و تفكيرها ، و مرة في وجدانها و مبادئها و قيمها ، و ما أكثر الأمثلة في عصرنا الذي نعيشه بداية من الأفلام الهابطة .. سواء أفلام سينمائية أو أفلام سياسية ، أو أفلام حزبية و فكرية ، كلها افلام ، و كلها مسيلميات ، والأغلبية الجماهيرية الناتجة عن حالة الغيبوبة ،تؤيدها، و بالتالي وجد أصحاب الأفلام المسيلمية الهابطة لهم منفذاً ، بل بوابات مفتوحة لتلويث ما تبقى من ذوق ، و تجهيل و طمس ما تبقى من معرفة ، و تشويه الفتات الناجي من الثقافة أو سياسات حزبية عصبية حاقدة تلبس ثوب التقوى و التدين، وأصحاب قناعات و شعارات ، و نظريات تافهة و كاذبة ..و دجالي سياسة ، يحلفون لك ليل نهار أنهم هم الأحق و هم الأنقى تماماً كما كان يحلف مسيلمة الكذاب .. للأسف ..
و العملية سهلة ، بداية من الفيلم الساقط و إنتهاء بالشعار السياسي أو الديني المشوه .. فما عليك إلا أن تلبسه قناعاً مموهاً .. مثل إسم لامع مضلل ، روحاني أو وطني ، والإرتكاز على قصة و سيناريو مقتبس ، و من ثم تأويله و تحريفه و تشويهه .. و إقحام ما تريد فيما يريد الناس ، دس السم في العسل .. هذا تماماً ما يفعلة دجالوا السياسة المحترفون أتباع مسيلمة الكذاب إلى يومنا هذا ، و إن لم تصدقني ، شاهد قنواتهم الفضاية ، و أنظر إلى معلقاتهم وصورهم على الجدران وفي الميادين ..المفبركة و المليئة بالكذب و التدليس التي يحاولون من خلالها " تعويد " و إجبار عينك و عقلك على تقبلها كحقيقة ، و ستعرف أن رسالة مسيلمة الكذاب ما زال لها أتباع ..


