بشرتنا الصحافة الإسرائيلية بخبر مفاده أن حكومة اليمين الإسرائيلي ستتخذ أحد أهم القرارات المصيرية منذ احتلالها للضفة الغربية وغزة العام ١٩٦٧.
وفي التفاصيل تمت الإشارة إلى أن هذا القرار قد يكون ضم مناطق جيم التي تشكل ما نسبته ٦٠ في المائة من أراضي الضفة الغربية ومنح سكانها الذين يشكلون أقل من خمسة في المائة من مجموع الفلسطينيين في الضفة الجنسية الإسرائيلية.
قد لا يكون الخبر صحيحاً، لكن ما هو مؤكد أن هذا الموضوع على أجندة اليمين الإسرائيلي منذ زمن بعيد وأن التوقيت والظروف الإقليمية والدولية هي ما منع اتخاذه في السابق، وأن الظرف أصبح مناسباً له في ظل العلاقات الآخذة بالاتساع بين العرب وإسرائيل.
دعونا نصارح أنفسنا قليلاً لأن الحديث عن الانقسام الفلسطيني، وعن المفاوضات، والمبادرات السياسية، وسبل تسيير الحياة اليومية قد أفقد الفلسطينيين القدرة على طرح الأسئلة الصعبة والتفكير في القضايا الإستراتيجية.
لم تتوقف القيادة الفلسطينية مثلاً لتسأل نفسها السؤال الآتي: إذا كانت إسرائيل غير راغبة في السلام مع الفلسطينيين منذ مقتل رابين العام ١٩٩٥، فما هو مشروعها بالضبط للفلسطينيين؟
هذا السؤال البديهي حد السذاجة لم يطرح لنقاش علني بين الفلسطينيين علماً أن الإجابة عنه هي ما يجب أن يحدد جوهر السياسة الفلسطينية.
الفلسطينيون أصبحوا أسرى لحل الدولتين منذ اعترافهم بإسرائيل في مؤتمر الجزائر العام ١٩٨٨، وأوهموا أنفسهم أنهم ماضون في الطريق الصحيح لأن هذا الاتجاه مدعوم إقليمياً وعالمياً؛ لذلك قبلوا باتفاق أوسلو وما ترتب عليه من تنسيق أمني وتعاون اقتصادي، وأكثر من ذلك تسهيل الطريق على إسرائيل للوصول إلى العواصم العربية (نقول تسهيل وليس فتح الطريق بين إسرائيل والعرب لأن هذه الطريق لم تكن مقطوعة مع العديد منهم).
لكن الفلسطينيين لم يتوقفوا للحظة ليسألوا أنفسهم: هل تريد إسرائيل فعلاً حل الدولتين؟
قد يعود السبب إلى أن حكومتي باراك وأولمرت قد قبلتا بحل الدولتين، لكنهما رفضتا القبول بمبدأ العودة إلى حدود العام ١٩٦٧ من ضمن أشياء أخرى مثل رفض الحديث عن عودة اللاجئين، والإصرار على الاحتفاظ بمنطقة الأغوار، والمطالبة بضم المستوطنات، ورفض السيادة الفلسطينية على البلدة القديمة في القدس.
هذا أعطى القيادة الفلسطينية الثقة بأن الإطار العام للحل، بمعنى حل الدولتين مقبول على الإسرائيليين، لكن مساحة الدولة، ناهيك عن صلاحياتها، هي ما يعيق تنفيذه.
الراحل عرفات رأى أن مساحة الدولة ستتسع باتساع الانتفاضة الفلسطينية.
بمعنى أن استمرار الانتفاضة الثانية سيفرض على إسرائيل العودة لطاولة المفاوضات لتقديم حل مقبول على الفلسطينيين ينهي الانتفاضة.
هذه الإستراتيجية فشلت لأن المقاومة المسلحة في الانتفاضة الثانية لم تعمل على رسم حدود الدولة الفلسطينية.
بمعنى أن المقاومة المسلحة كان يجب أن تكون في داخل الأراضي المحتلة من أجل إجبار إسرائيل على الانسحاب من الضفة.
لكن العمليات الانتحارية في الداخل الإسرائيلي جعلت سكان تل أبيب يشعرون بأن المستوطنات أكثر أمناً من المناطق التي يعيشون فيها، وبدلاً من أن تحولهم إلى قوة ضغط على حكومتهم للانسحاب من الضفة مثلما حدث في لبنان، حولتهم إلى تأييد اليمين الإسرائيلي الذي يريد ابتلاع الضفة والخلاص من سكانها.
الرئيس عباس، اتخذ سياسة نقيضة للراحل عرفات. العمل المسلح في تقديره، هو سبب كارثة الشعب الفلسطيني لأنه تسبب في إضعاف معسكر السلام الإسرائيلي وتسبب في عزلة الفلسطينيين دولياً.
الحل كان وفق حساباته باحترام الاتفاقيات مع إسرائيل حتى لو لم تحترمها هي، لأن ذلك سيوفر دعماً دولياً للفلسطينيين محصلته ستكون الضغط عليها للانسحاب من الضفة.
لذلك قبل الرئيس عباس كل المبادرة السياسية التي قدمتها الرباعية الدولية من إعادة بناء مؤسسات السلطة، إلى الإشراف على معبر رفح البري بالشروط الإسرائيلية (رغم أن الانسحاب من غزة لم ينسق مع الفلسطينيين)، إلى إعادة بناء المؤسسة الأمنية، والتأكيد على أن دورها لا علاقة له بنجاح أو فشل المفاوضات.
وأكثر من ذلك، قدم الرئيس عباس من جانبه كل ما يمكن أن يسهل على الإسرائيليين قبول التسوية السياسية من تبادل الأراضي، إلى دولة بلا سلاح، إلى حلول خلاقة للسيادة على الأماكن المقدسة.
لكن ما هي المحصلة؟
الإسرائيليون شعروا بأن لا حاجة لهم للتفاوض أصلاً مع الفلسطينيين لأن كل شيء طبيعي بالنسبة لهم وأن مشاكل الضفة اليومية تتم تسويتها بين دوائر الارتباط المدني والعسكري من الجانبين.
الحلم بالضغط الدولي لم يتحقق حتى في ظل أكثر إدارة أميركية متفهمه لمعاناة الفلسطينيين وهي إدارة أوباما.
لذلك أصبحت خيارات الرئيس عباس محدودة جداً، واختار من بينها ما يوافق تفكيره وهي أن العودة للانتفاضة كارثة على الفلسطينيين، وأن الظروف الإقليمية لا تساعد الفلسطينيين، وبالتالي فإن الحل الوحيد هو إدارة الأزمة بأقل الخسائر.
لكن ما لم تنتبه له القيادة الفلسطينية أن من يحكم إسرائيل منذ العام ٢٠٠٢ هو اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يرفض الدولة الفلسطينية من حيث المبدأ لأن «يهودا والسامرة» هي قطعة من إسرائيل.
رفض وقف الاستيطان من أجل عودة الفلسطينيين للتفاوض، كان وحده كافياً لإثارة السؤال المتعلق بما تخطط له إسرائيل في الضفة.
حتى عندما أعلن نتنياهو عن رفضه العلني لمبدأ حل الدولتين أثناء الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، لم يحدث ذلك ردة فعل فلسطينية أكثر من الإدانة.
اليوم أصبح واضحاً ما تريده إسرائيل: ضم مناطق جيم كخطوة أولى، ثم التفكير أياً من مناطق باء تحتاج إسرائيل ضمها.
الظرف الإقليمي والدولي يخدمهم. بالكثير سيحصل الفلسطينيون على اجتماع لوزراء الخارجية العرب يدينون فيه الموقف الإسرائيلي، ومن باب المجاملة سيتم التوجه لمجلس الأمن الذي سيصدر قراراً برفض عملية الضم لكن دون إجراءات رادعة، وستتم إضافته لأرشيف عشرات القرارات الدولية السابقة.
ضم مناطق جيم لن يغير من علاقات إسرائيل بأنظمة العرب التي لا ترى اليوم غير إيران عدواً لها.
والدول الغربية لن تقطع علاقاتها بإسرائيل إذا حدث الضم. وتركيا لن تنهي مساعيها لإقامة تحالف مع إسرائيل.
الكرة كانت وستبقى في الملعب الفلسطيني: القيادة الفلسطينية ستكون أمام ثلاثة خيارات من المستحسن أن تبدأ بالتفكير فيها من الآن:
القبول بالأمر الواقع فعلياً والاستمرار نظرياً بالحديث عن حل الدولتين، لكنها تعلم أن ذلك أصبح من الماضي في العقلية الإسرائيلية التي لا تؤمن إلا بمقدار ما يمكن فرضه على الآخر.
رفض الأمر الواقع ومواجهته، والتمسك بحل الدولتين، لكنها أيضاً تدرك أن هذا الخيار له استحقاقاته بما في ذلك تسليم مناطق ألف لإسرائيل لإدارتها وما يترتب على ذلك من تغير لقواعد الاشتباك مع إسرائيل.
الخيار الأخير هو رفض الأمر الواقع والتخلي عن حل الدولتين والمطالبة بدولة واحدة، ولهذا بالطبع استحقاقات أولها تسليم مفاتيح السلطة لإسرائيل.
ما هو مؤكد أن المساحة السياسية التي تُركت سابقاً للقيادة الفلسطينية للاستمرار بالحديث عن المفاوضات كآلية لإقامة دولة فلسطينية أخذت تضيق، وأنه في المستقبل القريب جداً، ستفرض إسرائيل على القيادة الفلسطينية أن تختار طريقها.


