كانت الدعوة إلى عقد المؤتمر الدولي للسلام جرت للمرة الأولى العام 1975 أي قبل واحد وأربعين عاماً، وذلك غداة اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية العام 1973. آنذاك كان عراب هذه الفكرة وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، ولكن استراتيجية الرجل الذي كان يدير دبلوماسية ماكرة في ذروة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، كانت تستبعد بالأساس منظمة التحرير الفلسطينية في منظوره لحل الصراع، الذي نظر إليه كنزاع بين الدول العربية وإسرائيل. ولذا عمل على ما يسمى منذ ذلك الوقت بالخيار الأردني كإطار لحل المشكلة الفلسطينية، وتذكر المحاضر السرية لمحادثاته مع غولدا مائير رئيسة الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت، تحذيره الشديد لها من أن عدم اغتنامها الفرصة السانحة بإعطاء الملك حسين موطئ قدم في الضفة الغربية، سوف يجعلها تفاوض عرفات في المستقبل، ولكن غولدا مائير رفضت بإصرار.
استبق عرفات الأريب والفطن انعقاد المؤتمر كما كان مقرراً له في جنيف، باتخاذ خطوتين حاسمتين عام 1974: الخطوة الأولى تتمثل بإصدار القمة العربية التي عقدت في الرباط بالمغرب ذلك العام اعترافاً لا لبس فيه بوحدانية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني، وكان عرفات يهدف من ذلك قطع الطريق على محاولة كيسنجر الالتفاف على المنظمة، وضمان عرفات مقعد حول طاولة المؤتمر.
أما الخطوة الثانية فتمثلت بإصدار المجلس الوطني الفلسطيني في نفس السنة ما عرف لاحقاً بالنقاط العشرة، التي تضمنت للمرة الأولى منح عرفات الغطاء للتفاوض على إقامة دولة فلسطينية في الضفة وقطاع غزة، ما اعتبر في حينه تحولاً في استراتيجية المنظمة التي كانت حتى ذلك الوقت تدعو إلى تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، ورفض الحلول السلمية.
وكان هذا التحول الحاسم في الخطاب الفلسطيني نوعاً من إحداث التكيف التكتيكي لملاءمة الاستراتيجية الفلسطينية مع الخطاب الدولي أو ما يسمى بالشرعية الدولية، من أجل اعتبارها طرفاً مقبولاً في أي حل للصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي إحراج الولايات المتحدة وإسرائيل برفض القبول بها.
رد كيسنجر على مناورات عرفات الماكرة بوضع ما يسمى بالشروط الأميركية لاعتراف أمريكا بالمنظمة، والتي تضمنت على الأقل شرطين يصعب على عرفات الموافقة عليها، وذلك سعياً لإحراج المنظمة وإبعادها. وهذان الشرطان هما: اعتراف المنظمة بالقرار 242 الذي يحصر التعامل مع القضية الفلسطينية فقط في جزئها المتعلق باعتبارها مشكلة لاجئين، أما الشرط الثاني فهو التخلي عن الكفاح المسلح باعتباره إرهاباً وإعلان المنظمة نبذها لهذا الإرهاب. وهما الشرطان اللذان وافقت عليهما المنظمة فيما بعد في العام 1988 بصياغة حاذقة للدخول في حوار مع إدارة بوش الأب.
ولكن سوف يتبين في العام 1975 أن قصة المؤتمر الدولي للسلام في جنيف لم تكن في الواقع سوى طبخة "بحص". كان هنري كيسنجر - المعجب والمتأثر بوزير الخارجية النمساوي مترنيخ الذي لمع صيته في القرن التاسع عشر كدبلوماسي داهية مولع بحياكة الدسائس والمؤامرات - وجد وضعاً في البيئة السياسية العربية التي تزخر بالمنافسات والتناقضات، ما شجعه على اختبار مواهبه الدفينة موضع التطبيق.
وهكذا بدلاً من الذهاب إلى تسوية شاملة بين العرب وإسرائيل تنهي الصراعات في الشرق الأوسط ويتم الاعتراف بموجبها بدور للاتحاد السوفياتي، كان هدف كيسنجر اللعب على هذه التناقضات لإضعاف حلفاء السوفيات وإخراجهم لاحقاً من المعادلة.
وفي هذا السياق تفجرت الحرب الأهلية في لبنان وتم اغتيال الملك فيصل ووضعت بذور الأزمة والشقاق بين مصر وسورية، وبين سورية والمنظمة، وحدث الانقسام الأول في صفوف الفلسطينيين بين ما سمي بجبهة الرفض بزعامة الجبهة الشعبية ودعم الرئيس العراقي صدام حسين، وبين ما اعتبر الاتجاه البراغماتي والمعتدل الذي تمثله فتح.
طوال عقد الثمانينات تقريباً ظللنا في مجلة "فلسطين الثورة" المجلة المركزية لمنظمة التحرير ندعو في الخط الإعلامي والسياسي إلى عقد هذا المؤتمر الدولي لحل الصراع، باعتباره هو المفتاح السحري. وكانت هذه الدعوة هي اللازمة السياسية في موقف الاتحاد السوفياتي حليفنا في ذلك الوقت، كما في مواقف المنظمة.
لكن أميركا التي كانت تراهن على انهيار الاتحاد السوفياتي الوشيك لم تعط أذناً صاغية لهذه الدعوة، وكذا كانت إسرائيل المنخرطة في إنشاء حكومات الوحدة الوطنية بين الليكود والعمل وتفكك هذه الحكومات، تراهن على تحول المنظمة في تونس إلى جثة هامدة مع الوقت، ولم تكن في وارد إعطاء عرفات حبل النجاة.
لكن حدثين حدثا في نهاية هذا العقد غيرا جميع الحسابات وأعادا طرح هذه الفكرة مجدداً على بساط البحث، وتمثل الحدث الأول باندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، والثاني غزو الرئيس العراقي صدام حسين الكويت ونشوء حرب الخليج الأولى عام1991.
إلى المؤتمر الدولي إذاً في مدريد بعيد إلقاء بوش الأب خطاب النصر على العراق وتحرير الكويت، ولكن دون الدعوة مرة أخرى إلى عرفات والمنظمة لحضور المؤتمر، وإنما توجيه هذه الدعوة إلى مجموعة من الشخصيات من داخل الأراضي الفلسطينية، ليكونوا بمثابة الوفد الفلسطيني المفاوض ضمن وفد مشترك مع الأردن وليس كوفد مستقل. وكان هذا الترتيب الإجرائي الذي يسمح أيضاً بغض النظر عن لقاءات يعقدها هذا الوفد في تونس مع عرفات ليقدم له التقارير عن سير المفاوضات، إنما يعكس في حقيقته وفي الجوهر رهاناً أميركياً وإسرائيلياً أخذ في التبلور بعد نشوء الانتفاضة على إمكانية الاستغناء عن مكانة قيادة المنظمة في الخارج، واستبدالها بقيادة محلية في الداخل. وهي اللحظة التي شهدت صعود نجم أشخاص مثل فيصل الحسيني وصائب عريقات وحنان عشراوي وآخرين، وجميعهم ممن يمكن اعتبارهم من الجيل الثاني الشاب، ومن تلقوا ثقافة أكاديمية راقية ونظر إليهم بأنهم يمثلون رؤية وثقافة وخبرة مغايرة لمدرسة عرفات ورفاقه في قيادة المنظمة.
لكن عرفات الذي اشتم هذه الرائحة سوف يفاجئ الأميركيين والإسرائيليين بإقدامه على واحدة من أخطر مناوراته السياسية في صراعه السياسي، هذه المرة من أجل الحفاظ على الدور المحوري للمنظمة في أي تسوية للصراع، كما للحفاظ على البقاء كلاعب مركزي. وكانت هذه المناورة تتمثل بفتح قناة أوسلو التفاوضية السرية وبصورة موازية للمفاوضات العلنية التي كان يقودها حيدر عبد الشافي.
وبقية القصة معروفة لولا إسحق رابين الذي وجد فيه عرفات شريكاً، لما أمكن لهما معاً تحقيق هذا الاختراق، بفتح أول ثغرة حقيقية في الجدار الصلب للنزاع. الأمر الذي كلفهما فيما بعد دفع حياتهما بسبب جرأتهما هذه. وبعد التخلص من رابين واصل خلفاؤه نتنياهو وأيهود باراك وشارون تقويض آخر ما تبقى من اتفاقية أوسلو ومن إرث الرجلين رابين وعرفات.
إلى باريس إذاً هذه المرة الثالثة وكنا صغاراً في الصف الأول ننشد عن الصف الأول "كعك مدور والثاني تفاح شامي والثالث سكر نابت"، ويقال تفاؤلاً في الحكمة الشعبية "الثالثة نابتة". وهي دعوة مختلفة بالفعل عن سابقاتها فهذه دعوة لم تأت لأول مرة من الولايات المتحدة ولا تحت رعايتها الحصرية، وإنما من فرنسا وأوروبا وتحت رعاية دولية واسعة حقاً تمثل كل الطيف الدولي. وهي دعوة مرة أخرى لا توجه لنا للمشاركة فيها ولكن هذا الاستثناء لا يشملنا أو يقتصر علينا وحدنا، وإنما يشمل إسرائيل.
بيد أن ما هو استثناء ومختلف هذه المرة ولأول مرة أن كل هذا الحفل من أوله إلى آخره، إنما يقام على شرفنا شرف القضية الفلسطينية. وإن استبعادنا وإسرائيل يهدف إلى غاية واحدة، فرض الحل الذي سيتوافق عليه المجتمعون علينا وعلى إسرائيل، وهذه الغاية اليوم سابقة تؤسس لوضع آلية جديدة للتوصل إلى إنهاء الصراع بعيداً عن المفاوضات التقليدية السابقة.
هل نقترب الآن من ساعة الحقيقة، نهاية المسيرة الطويلة على هذه الطريق، لمحاولة التغلب على هذا النزاع؟ وإن هذه النهاية تبكر اليوم في القدوم؟
والجواب كما يبدو بالنظر إلى كل الدلائل والمؤشرات هو نعم، إذا كان الوقت قد حان للأطراف الدولية جميعاً وضع حد للانفجار الشرق أوسطي الكبير، وقد بدأت حرائقه تصل أوروبا.
وهل نفهم عندئذ لماذا جاءت المبادرة من أوروبا التي هي أقرب إلى الحريق؟ وإن كان أوباما حاضراً ووزير خارجيته ولكن في المقاعد الخلفية من غرفة القيادة. هذا مؤتمر دولي من أجل إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية باعتبارها جذر الصراع ومرجل النار العظيم الذي يشعل الحرائق في كل مكان.


