كثر مؤخراً الحديث عن تراجع الاهتمام الأميركي بمنطقة الشرق الأوسط وهو ما عكسته سياسات بعض الدول العربية التي رأت أن تعويض ذلك يكون بالانفتاح أكثر على إسرائيل تنسيقاً وربما تحالفاً.
تراجع الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط كان واضحاً في ثلاثة ملفات على الأقل:
الملف السوري، وفيه رفضت الولايات المتحدة ضغوط حلفائها الشرق أوسطيين لتسليح المعارضة بأسلحة متقدمة، ورفضت إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري، ورفضت أيضاً توجيه ضربات عسكرية للنظام السوري بعد الادعاءات بأنه استخدم أسلحة كيميائية ضد خصومه، ورفضت أيضاً العمل على توريط واستنزاف الروس في سورية كما فعلت في أفغانستان.
في الملف نفسه كان هنالك خلاف واضح بين أميركا وحلفائها بشأن تحديد الأولويات. أمريكا أرادت إعطاء الأولوية لمحاربة الجماعات المتطرفة مثل "داعش" والنصرة، وقبلت على مضض استثناء حركة أحرار الشام المدعومة تركيا وقطرياً، وجيش الإسلام المدعوم سعودياً من هذه الحرب، علماً بأنهما لا يختلفان كثيراً في أدبياتهما عن "داعش" والنصرة. حلفاء أميركا أرادوا إعطاء الأولوية لإسقاط النظام السوري رافضين التوجه الأميركي.
الملف الإيراني، وفيه أرادت الولايات المتحدة إحداث تسوية قائمة على منع إيران من امتلاك سلاح نووي ورقابة على هذا البرنامج، في الوقت الذي كان يطالب حلفاؤها بالتصعيد مع إيران عبر تشديد الحصار عليها ومن ثم محاربتها عسكرياً.
أميركا لا تريد تدخلاً جديداً في الشرق الأوسط بعد فشل تدخلها في العراق وليبيا، لذلك اختارت طريقاً تكلفته أقل ونتائجه مضمونه أكثر لأنه يستهدف فقط البرنامج النووي الإيراني. الحلفاء أرادوها حرباً شاملة لأن المسألة بالنسبة لهم ليست النووي الإيراني، ولكن النفوذ الإيراني في سورية والعراق واليمن ولبنان. فقط من خلال تدمير إيران يمكن تقليص نفوذها وربما اجتثاثه من المنطقة. لكن الولايات المتحدة لا مصلحة لها في حرب تستنزف مواردها وتؤدي إلى مقتل جنودها حتى لو كان ربحها في متناول اليد، لذلك رأت أميركا أن اعتراف الطرفين (إيران وحلفاء أميركا) بمصالح بعضهم البعض، والتنسيق بينهما كفيل بجعل حياة الطرفين ممكنة، وبما يؤدي إلى استقرار المنطقة، وهو ما يرفضه حلفاؤها الذين اعتادوا على أن تكون يدهم هي العليا بعد إسرائيل في كل ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط.
الملف الثالث هو الملف الفلسطيني، وفيه كان واضحاً بالنسبة للولايات المتحدة، وتحديداً بعد الفشل الذي لحق بالثورة المصرية وتحول الثورة السورية إلى حرب أهلية وإقليمية، أن التقدم فيه مستحيل لسببين: الأول يتعلق بفقدان الرئيس أوباما لرافعة إقليمية يمكنه استخدامها للضغط على إسرائيل لقبول تسوية مقبولة على الفلسطينيين. بمعنى أن العرب أشاحوا بوجههم عن القضية الفلسطينية وسقطوا في صراعاتهم الداخلية، ولم يعد بإمكان الإدارة الأميركية الحديث عن أهمية السلام مع الفلسطينيين من أجل تعميمه على العرب لأن الطرف الأخير أصبح أقرب لإسرائيل من الولايات المتحدة نفسها.
والثاني، هو أن لا مصلحة لأوباما بالدخول في صراع علني مع حكومة نتنياهو من أجل الفلسطينيين يتسبب في تأليب أعضاء الكونغرس على إدارته؛ لذلك غسلت هذه الإدارة يديها من هذا الملف.
مشاهد التراجع هذه لها أيضاً أسباب قد تستمر لوقت طويل جداً. يمكن تحديد خمسة أسباب لهذا التراجع:
الأول، هو تراجع حاجة الولايات المتحدة للنفط العربي. اليوم تنتج الولايات المتحدة ما يقارب أربعة عشر مليون برميل من النفط الصخري، وهو رقم يفوق ما تنتجه العربية السعودية (تقريبا اثنا عشر مليون برميل).
في العام 2015 استوردت الولايات المتحدة أقل من خمسة ملايين برميل من النفط يومياً، منها فقط مليون برميل من العربية السعودية، أما الباقي فأغلبه من كندا وجزء بسيط منه من فنزويلا، المكسيك، وكولومبيا (الأرقام من هيئة الطاقة الأميركية). بمعنى حتى المليون برميل يمكن لأميركا الاستغناء عنه بسهولة واستيراده من دول أخرى. ما سمعته على الأقل، الاستمرار بالاستيراد على ضعفه مرتبط بعقود قديمة ينتهي بانتهائها.
الثاني، يتعلق بالموارد التي فقدتها الولايات المتحدة عبر تدخلها المباشر في العراق. تقدر هذه الموارد بتريليونين من الدولارات (2000 مليار دولار) أنفقتها الولايات المتحدة في حربها على العراق من العام 2003 إلى العام 2010. صحيح أن هذه الأموال ذهبت للجيش الأميركي ولشركات السلاح الأميركية، ولشركات الأمن الأميركية الخاصة، لكنها جميعاً جرى تبريرها بالحاجة للانتصار في الحرب وتأمين القوات الأميركية في العراق. هذه الأموال كانت كفيلة بإيجاد عشرات الآلاف من فرص العمل للأميركيين وتأمين الرعاية الصحية والاجتماعية لهم، وهو موضوع دائم الحضور في الحملات الانتخابية للرئاسة الأميركية.
الولايات المتحدة لا تريد التورط أكثر في الشرق الأوسط وتكرير نفس المأساة. على الأقل، من الصعب إقناع الأميركيين اليوم بأهمية التدخل العسكري في الشرق الأوسط إن لم يكن لحماية الأميركيين أنفسهم من خطر واضح وحقيقي.
السبب الثالث، الذي يدفع أميركا للاهتمام أقل بالشرق الأوسط هو حقيقة أن إسرائيل أصبحت آمنة. لا توجد قوة اليوم تهدد أمن إسرائيل باستثناء فصائل المقاومة وهذه لا تشكل خطراً حقيقياً على وجود إسرائيل. الأهم من ذلك، أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تفعل شيئاً بخصوص ذلك لأن مسألة إنهاء المقاومة مرتبطة بعملية السلام، وهذا مرتبط برغبة إسرائيل به. اليوم الشعب الأميركي- بما فيه يهود أميركا - منقسم على نفسه بشأن إسرائيل وهو ما سمح للمرشح الديمقراطي بيرني ساندرز بانتقاد إسرائيل علناً في حملته الانتخابية.
الرابع، يتعلق بمحدودية الإمكانيات التي يمكن للولايات المتحدة تسخيرها لخدمة مصالحها. إمكانيات الولايات المتحدة بلا شك أكثر من أي دولة أو حتى مجموعة من دول العالم، لكن هذا لا يعني أن إمكانياتها مطلقة وبلا نهاية.
أميركا ترى اليوم أن بإمكانها تعزيز مصالحها في دول أميركا اللاتينية ودول شرق آسيا بتسخير جزء مهم من المصادر التي تسخرها للشرق الأوسط لهذه الغاية. بمعني بدلاً من تقديم المساعدات المالية لدولة مثل مصر يمكنها استغلال ذلك لتعزيز نفوذها ومصالحها في دول أخرى. وبدلاً من صرف المليارات على قواعدها العسكرية وأساطيلها البحرية في الشرق الأوسط يمكنها تحويلها لأماكن فيها فائدة أكثر لها.
الخامس، يتعلق بالحرب على الإرهاب. أميركا تريد التخلص من معزوفة الجماعات الإسلامية بأن سبب حربهم على الغرب وعليها تحديداً هو تدخلهم في شؤون الشرق الأوسط. هذا لا يعني أن حرب أميركا على الإرهاب سيتوقف، ولكنه يعني أن على الدول والشعوب المتضررة منها أكثر، بمعنى دول وشعوب الشرق الأوسط، أن تتحمل المسؤولية الأكبر في هزيمة هذه الجماعات. بطريقة أو بأخرى. أميركا ستحارب الإرهاب، لكن من خلال الدول وأحياناً القوى المستعدة لمحاربة هذه الجماعات.
بهذه الطريقة تضمن أميركا تدخل أقل من جانبها في الشرق الأوسط لا يُمَكن هذه الحركات من الادعاء بأنها تحارب أميركا بسبب سياساتها في الشرق الأوسط، ويضمن في نفس الوقت استمرار محاربة هذه الحركات حتى القضاء عليها.
هذه الأسباب لا تعني انسحاباً كلياً من منطقة الشرق الأوسط، لكن حضوراً أقل لها فيه. أميركا ستحافظ على نفوذها في ثلاث دول تعتقد أنها مستقرة، وأن وجودها فيها ضمانة لعودتها بقوة للشرق الأوسط عندما تريد. هذه الدول هي قطر، والأردن، والمغرب. لماذا هذه الدول، هذا موضوع بحاجة إلى بحث مستقل.
هذا التراجع الأميركي لا يرتبط بوجود أوباما في البيت الأبيض. صحيح أنه من وضع حجر الأساس له، لكنه سرعان ما تحول إلى سياسة احتضنها الإعلام الأميركي، ومرشحو الرئاسة، ديمقراطيوهم وجمهوريوهم. جزء مهم من السبب يعود لجرأة الرئيس أوباما علي طرح مواضيع شائكة وتحدي مفاهيم قائمة منذ عشرات السنين. لكن السبب الأهم يعود إلى التغيرات التي جرت وتجري في أميركا والشرق الأوسط وهو ما أشرنا له سابقا.


