بعيدا عن أي "حسابات سياسية - فكرية" خاصة مع حكام العربية السعودية، ماضيا وحاضرا، رؤية ومواقف كثيرها مختلف عن "المشهد العربي القومي" كان، بل وبعضها أصاب مصالحة الأمة بضرر بالغ، لا زالت تدفع ثمنه حتى اللحظة، وأبرزها حالة "العداء" التي نشبت فجأة مع الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في منتصف الخميسينات، لسبب معلوم جدا، بعد أن كانت تلك العلاقات تؤسس لمستقبل عربي مشرق، حتى أن الملك الحالي سلمان بن عبد العزيز كان أحد متطوعي العرب للقتال الى جانب جيش مصر بعد القرار التاريخي للزعيم الخالد بتأميم قناة السويس..
المشهد العربي، لم يستقم كثيرا في ظل الخلاف المصري السعودي، بل انه شهد من "النكسات" ما ألحق أشد مظاهر الأذى العام لمصالح الأمة، قبل أن يصيب مصالح الدول منفردا، ولعل موقف الملك فيصل خلال حرب أكتوبر نتج عن رؤية ما لتعديل بعض ملامح "المشهد" في العلاقة المصرية - السعودية، وايضا تحسين مكانة "السعودية" ذاتها في المنظومة العالمية، من خلال وقف تصدير البترول، رسالة بدأت وكأنها سياسية ولكنها في الجوهر رسالة سعودية إقتصادية، في محاولة لتصويب العلاقة بينها ودول "الإحتكار العالمي"..رسالة لم تكتمل بما كانت تستحق من احداث "انعطافة ثورية" تعيد تصحيح مكانة المملكة السعودية، وايضا الدول العربية في "النظام العالمي" سياسيا واقتصاديا..
ومن يراقب المشهد، سيجد ان تأثير دولا أقل قدرة وإمكاينات من الدول العربية بكثير، كانت أكثر فاعلية وأثرا على قرار "النظام العالمي"، نتيجة لإعتبارات عدة لا وقت لتناولها في هذه الزاوية..
ولذا كانت "المفاجأة" التي عرضها الأمير الشاب محمد بن سلمان، في مقابلة مع قناة "العربية"، تمثل "انحرافا تاريخيا" عن المسار التقليدي للعربية السعودية، رؤية هي الأشمل منذ تأسيس المملكة، والأكثر تعبيرا عن الذهاب نحو مرحلة تستقيم بها ملامح "نظام سعودي جديد"..
مضمون "رؤية الأمير الشاب" باتت في متناول الجميع، وتم الترويج لها إعلاميا بما تملك العربية السعودية من سيطرة وتأثير أعلامي بلا حدود، رؤية حددت ملامح المستقبل لما يجب أن يكون عليه "النظام القادم"، بالطبع دون مساس بجوهر حكم "العائلة"، ربما مع تعديل جوهري في آلية توريث الحكم، من العمودي الى الأفقي، وكسر منظمة التوريث التقليدية، والحق هعنا لا بد من الاشارة الى "التعديل الأول" الذي قام به الملك عبدالله قبل رحيله، بتشكيل "هيئة البيعة" وتسمية ولي عهد وولي ولي عهد، رغم أن الالتزام لم يكن "نموذجيا" في التطبيق..
الأمير الشاب محمد بن سلمان، كسر كثيرا من "الأسرار" التي كانت وكأنها من "المقدسات السياسية" تصل الى درجة الترحيم والتحليل، رغم أن الأمير "المتمرد" طلال بن عبد العزيز الذي ترك بلده وذهب الى الإقامة في مصر، ضمن هواه "الناصري"، ما جلب عليه "غضب العائلة المالكة"، كان له السبق للحديث عما يحيط بالحكم السعودي من "مصائب"، لكنه قالها من باب المعارضة وليس من "قلب الحكم والحاكم"..
الأمير الشاب تحدث عن الفساد الهائل في المملكة ومدى خطره، ولذا احتل مكانة واسعة مما يفكر به لمقاومته، تحدث عن البترول وشركته، أرامكو التي باتت عرضة للخصخصة بنسبة مئوية لا تتجاوز الـ5% لكنها رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة..مع الأمل أن لا ينتقل احتكار الدولة الى احتكار القطاع الخاص، كوارث تعرضت لها كثير من الدول التي "تسرعت" في تنفيذ تلك العملية..لكنها خطوة تحسب له، بما يفتح "باب الشفافية" المالية - الاقتصادية لأكبر شركات العالم الاقتصادية، وتلك واحدة من ما للخطوة قيمة وتقديرا..
الأمير الشاب، تحدث ولأول مرة تسمعها من أمير أو مسوؤل سعودي، عن معني القيمة السياحية للمملكة، اشار الى أنه لا يوجد ما يتناسب "ومكانة السياحة الدينية" بل أنها اشار الى غياب وجود متحق يتناسب وما بالمملكة من "قيم وآثار"، وأن تاريخ بلادهم يعود الى ما قبل الإسلام وبها كثير ما يستحق الاشارة اليه "سياحيا"..
الأمير الشاب، تحدث أن البترول ليس هو "الاقتصاد" ولا يجب أن يكون اساسا للبناء الاقتصادي الجديد، فتقدم بما أسماه "صندوق استثماري" برأسمال الفي مليار دولار، "2 ترليون" دولار، صندوق قد يراه البعض معجزة، لكنه في الواقع ومع بعض "التصويب" في طبيعية النظام المالي، سواء شراكة القطاع الخاص في "ارامكو" أو غيرها، يمكنه أن يتحقق ذلك..
التفكير هنا، ليس قيمة أموال الصندوق بذاتها، رغم أهميتها، لكنه التفكير بتعديل طبيعة "النظام الاقتصادي" ذاته، و هو ما يمثل "الجوهري الجديد" في رؤية الأمير الشاب..خاصة وهو يرفقها برؤية مختلفة لتعديل نظام وأسس "الدعم المالي" الحكومي، والذي قال أن 70% منه يذهب للأغنياء والإمراء..
ودون استعراض لكل محاورها، فالأساس جاء من "يكسر صندوق العجب" السياسي والمالي في نظام كانت "اسراره" تبدو وكأنها جزء من قوته، والحق هي غير ذلك بتاتا..
خطوة هائلة لللأمير، وعله يعيد قراءة بعض تجارب البناء الأكثر تعقيدا في تغيير دفة "النظام الإقتصادي" في عالما المعاصر، التجربة الصينية، تلك التجربة التي واجهت رفضا ومقاومة بلا حدود، من اصحاب "الفكر الماركسي - الاشتراكي التقليدي"، واطلقوا عليها كل المسميات "الانحرافية"، لكن من قرر "الانحراف" عن "السكون الثابت" لم يلتفت لما يقال تكسيرا للمستقبل، بل ذهب ليبني مزيدا من "أسس الانحراف" لتصبح الصين في عالم اليوم قوة لا يمكن النيل منها، بل ولها من "الأثر" الكبير، وإن كان كثيره بصمت ودون إدعاء..
ودون سهو، فإنها المرة الإولى، عدا الأمير طلال وأبناءه، تجد أميرا حاكما، وممسكا بمقاليد السلطة تقريبا، يتصرف بتلك الأريحية الانسانية مع اعلام عربي، فما بالك باعلام سعودي..كانت تلك وكأنها من "المحرمات"، في حين تجدهم مع الاعلام الأجنبي بأي مسمى كان مختلفين، ممازحين، بينما "الجهامة والصلف" تحضر عند لقاء أي وسيلة اعلامية عربية..
وبعيدا عن مواقف البعض الكاره للمملكة، فما كان يمثل "خطوة ثورية حقيقية" سيكون لها أثرا جوهريا على طبيعة النظام العربي بكامله، لو كتب له النجاح والحياة في آن..


