هل لاحظت عمليات " اللجوء " إلى جمال عبد الناصر ، في أمور حياتنا ؟ أليس هذا أمر عجيب ؟
جمال عبد الناصر ولد في 15 يناير 1918 ، يعني لو أنه ما زال حياً للآن لبلغ من العمر الثامنة و التسعين .
جمال عبد الناصر مات في 28 سبتمبر 1970 أي قبل 46 عاماً .. و إستمرت الحقبة " الناصرية " مدة أربعة عشر عاما فقط .. خاض خلالها 3 حروب في 1956 واجه العدوان الثلاثي و في 1967 إعتداء إسرائيلي غاشم ، وأطلق معارك الإستنزاف و إعادة بناء الجيش و وضع خطة العبور منذ عام 1967 وحتى وفاته .. هذا بالإضافه لحرب اليمن ، و إمداد الثوار في كل أنحاء الوطن العربي بالسلاح و التمويل و الحماية السياسية و المعنوية .. اقام الجمهورية الأولى في مصر ، و الوحدة الأولى بين العرب ، و بنى المصانع ، و السد العالي ، و أمن منابع نهر النيل ، و أنشا نظاما تعليمياً بكل المراحل حتى الجامعي و البحث العلمي ، و وزع الأراضي ، و شق الطرق و أنار القرى و المدن ، و أزدهر في عهده المسرح و السينما و أنشا أول تلفزيون في الشرق الأوسط و إذاعة عربية ، و كان أول من أمر بجمع القرآن مرتلاً بالصوت، ثم بالصوت و الصورة ..
الغريب ، أن الكثير منا ، حتى في ما يتعلق بأموره الشخصية ، من صعود و هبوط ، و من أمل و يأس ، تعب و راحة ، فرح و حزن ، كما هو واضح على وسائل التفاعل الإجتماعي و الصحافة الشعبية و الجماهيرية ، تجده يلجأ إلى صورة لناصر ، أو تعليق أو جملة من خطاب .. و يظل هذا التعلق ، و اللجوء لناصر ملازماً لنا أفراداً و مجتمعات ، حين يحمى الوطيس ، و تشتد قسوة الظروف ، السياسية أو الإقتصادية أو الإجتماعية ، تجدنا نعود إلى ناصر ، نستذكر مواقفه ، و خطبه و اقواله ، نترحم عليه ، و نستلهم منه العبر و الحلول ..
كان ظهور صور و أقوال ناصر في ثورة الشعب المصري ، مفاجئاً لكل من حاول و دبر و أراد أن يلوي عنق تلك الثورة ، ليلبسها ثوب الأمريكان أو الإخوان أو غيرهم .. إلا أن الشعب ، بعفوية و تلقائية ، إختار العنوان ، المفاجئ ، بل لنقل الصاعق الذي قلب كل الموازين ، و أنذر بفشل تدبير كل المتآمرين ، بكل بساطة رفعت جموع المتظاهرين صور جمال عبد الناصر ، و شعارات ناصرية و قومية .. وكان حريٌ بكل قوى التآمر التي أرادت إمتطاء صهوة الثورة ، أن تقف و تفكر و تعيد حساباتها وتتراجع .. لكنها وقعت في شر أعمالها .. عندما عميت البصائر .. و إستمر إستلهام مواقف ناصر ، و الإستنارة باقواله كمرجع و بشكل عفوي ، تلقائي ، لدى الشعب العربي كله .. و لوحظ ذلك في كل خطوة و في كل تفصيلة و فاصلة و حرف كتب ، بل و كان آخرها العودة إليه ، ليحكم هو ، و ليَفصِل هو ، في قضية جزيرتي تيران و صنافير ..
و هنا يجب أن نقرر أن مرجعية ناصر لم تكن ، حكراً و لا حاجة للشعب المصري فقط ، ففي فلسطين ، ما زال هو النبراس ، و هو الرمز ، و هو الزعيم الذي تقاس على مبادئه كل التحركات و القرارات المصيرية .. بشكل غير شعوري ، سواء من قبل محبيه أو حتى معارضيه ..
في اليمن ، في الجزائر في سورية ، في لبنان ، في تونس في ليبيا في السودان .. برغم كل الحراك ، و الأحزاب و التيارات الفكرية ، الدينية و الوطنية ، و الإجتماعية ، التقدمية و الأصولية ، برغم كل ما تغير و تبدل في العالم ، برغم ما سقط من نظريات ، و تهدم من نظم و مبادئ ، بالرغم من ظهور القادة و المفكرين ، الساسة و العسكر .. إلا أن مبادئ ناصر ، مفاهيم ناصر ، صورة ناصر ما زالت هي المرجع و هي الملجأ .. هي الأمل و هي الذكرى و هي المستقبل ..
لم تفلح كل حملات التشويه ، و لم تفلح كل أدوات الحرب و القتل ، من محو ناصر و مبادئه من وجدان الأمة العربية ، بدعاوى بدأت من اتهامه بالعصبية و العنصرية حين دعا و أحيا القومية العربية ، و محاولات التكفير و الشيوعية و الزندقة و معاداة الإسلام وغيرها من التهم و الأحكام حين نادى بالإشتراكية العربية ، وهنا يجب أن نتذكر ماقاله في كلمات قصار ملاء ، لخص فيها سبب رفضه التعاطي مع شعارات إسلامية لتجارب إنسانية في الحكم و التشريع .. و قال ببساطة " إن الحكم والسياسة مجرد تجربة إنسانية لا تخلو من احتمالات النجاح والخطأ ، إنني أريد أن أتحمل مسئولية الفشل وحدي فيما لو حدث ، ولا أقبل التجنّى على الإسلام ، وأمامنا تجربة محمد على جناح في باكستان التي فشلت هناك ، فعزا البعض فشل تجربته إلى الإسلام ، فما حاجتى بتعريض الإسلام لمثل هذا النقد الذي قد ينال منه ؟ "
و ربما من الجدير أيضاً أن نتذكر ، ما قاله في الرد على الأدعياء ، المدعين أنهم حملة راية و رسالة الإسلام ، و يريدون حكم إسلامي ، بينما غايتهم سياسية ، فئوية ، لا علاقة لها بما يدعون و يزيفون ، يبيعون الوهم و الشعوذة للناس ، و يدعون أنهم العارفين و أنهم الربانيون دون غيرهم ، و يستمون تسلطهم و نفوذهم من قاعدة ما يزيفون من دعاوى بشعارات دينية ، فيبين ناصر الفرق بينهم و بين حقيقة المسلم ، المتبع لخطى الرسول الأعظم عليه الصلاة و السلام ، في التمسك بالواقعية ، و البعد عن الهرطقة و التدليس .. وهنا نقتبس من قول ناصر :
" والحق أن صاحب الرسالة العظمى قد زوده الله بثروة من الشرف والصراحة والثبات؛ هى كفاء ما حمل من أمانة وبلغ من رسالة، ولن يصل صاحب رسالة نبيلة إلى غايته إلا إذا مشى فى هذه السبيل المشرقة. ولقد حدث أن كسفت الشمس على عهد رسول الله، وكان ذلك يوم مات ابنه إبراهيم فتحدث الناس أن الشمس كسفت لوفاة ابن النبى، ولكنه عليه السلام أبى أن يسايرهم فى هذا الوهم، وكره أن ينسب إلى ابنه ما ليس له؛ فخطب الناس يقول لهم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يكسفان لموت أحد أو حياته"، وتلك طبيعة الرجل العظيم؛ يعتمد دائماً على الصراحة والصدق، ولا ينتهز الفرص لبناء مجد كاذب، أو اكتساب عظمة زائفة. إن محمداً يجب أن يدرس ويعرف؛ ليدرك الناس من خلاله الذكية، ونفسه النقية ما يعمر القلوب بالإخلاص والبر.
والله عز وجل جَعَل عَملَ نبَيه فى الناس أن يقرن إلى العلم التربية والتزكية ، فقال: (لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة).. وليس يروى جدب النفوس إلا ينبوع دافق بالرحمة والإحسان، وكذلك كان رسول الله، وكذلك يجب أن يسير المقتدون به، الآخذون برسالته. والله يهدينا جميعاً سواء السبيل."
لهذا ، كان ناصر ، هو العراب الحقيقي للإشتراكية العربية ، و التي إختلف فيها مع أساطين و مفكري الإشتراكية و الشيوعية في روسيا و الصين و أوروبا الشرقية، و كان له سجال شهير مع الزعيم الروسي خورشوف ، حيث وضح له أن الاشتراكية العربية كانت و ستظل خطوة طبيعية في سبيل تكريس الوحدة العربية و الحريات، كون النظام الاشتراكي في الملكية و التنمية وحده القادر على تجاوز مخلفات الاستعمار في العالم العربي. في نفس الوقت، الاشتراكية العربية شديدة الاختلاف عن الحركات الاشتراكية بشرق أروبا و شرق آسيا، التي كانت علمانية و أممية . قاعدة الحركة الاشتراكية العربية ليست عرقية، بل ثقافية و دينية إسلامية . بذلك كانت الاشتراكية العلمانية المعادية للديانات كانت و ما تزال غير ملائمة للعالم العربي.
بينما توافقت الاشتراكيات العربية و الشرق أروبية في البرامج الاقتصادية و الاجتماعية، إلا أنها إختلفت معها في قواعد الفكر و المعتقد الديني الإسلامي ، فملكية أدوات الإنتاج وجب تأميمها، لكن مع احترام العادات و الثقافة و القيم و الحقوق الشرعية التي منحها الإسلام لمعتنقيه ، مثل الملكية الخاصة و الإرث. كانت بعض أهداف الاشتراكية العربية القضاء على الإقطاعية و القبائلية و الطائفية الدينية و اضطهاد المرأة، لكن بدون المساس بالروابط الاجتماعية التي تكوّن الهوية العربية ، التي هي العمود الفقري للأممية الإسلامية بعد ترسخها و ثباتها .
رحم الله ناصر ، الزعيم و المفكر .. و القائد المعلم .. و رحم الله من لم يرى حتى الآن ، ببصر و بصيرة ، أهمية التقدم نحو المبادئ الناصرية التي تحمل للعرب و لفلسطين في المقدمة ، الحل الأمثل ، إن خلصت النوايا ، الضامن لفك الإشتباك المفتعل بين الفكر الديني و الفكر القومي الإشتراكي ..


