خبر : هذا هو الشرق الأوسط الجديد وهذه هي هويته الجامعة ... حسين حجازي

السبت 16 أبريل 2016 08:43 ص / بتوقيت القدس +2GMT





ربما يجوز النظر من الآن الى هذه القمة للدول الإسلامية في إسطنبول، باعتبارها نقطة تحول منذ انعقاد او تأسيس هذه الكتلة الدولية الوازنة في العام 1969 من حول قضية فلسطين والقدس. كأنما هي العودة بعد خمسين عاما الى الأصل، علة العلل وأصل المشكلات جميعا في هذا الشرق والعالم. "فهنا رودس فلنقفز من هنا".
ولكن اذا جاز لي ان أقارن هذا الاجتماع المؤتمر التاريخي الثاني في اسطنبول يوم الخميس بحدث تاريخي آخر في دلالته، فلعله هو الأقرب الى الإعلان في العام 1955 في باوندنغ عن ولادة ما سيعرف منذ ذلك الوقت بكتلة دول عدم الانحياز، حين سعى كل من ناصر ونهرو وتيتو آباء هذه الحركة في حقبة ما بعد نزع الاستعمار وانقسام العالم والتوازن الدولي بين محورين بزعامة أميركا والاتحاد السوفياتي، الى رص صفوف ما سمي بالعالم الثالث في جبهة او كتلة ثالثة تدافع عن مصالح هذه القوة الجديدة الصاعدة، والحاصلة لتوها على الاستقلال والتحرر من الاستعمار.
ان ما يحدث اليوم ليس ولادة حركة جديدة ولكن إعادة تجديدها بل وتأطيرها بروح جديدة، ولكن هذه المرة بتأصيل هويتها كما أهدافها السياسية على حد سواء، في زمن يسترجع نفس الظروف والأجواء التي كانت سائدة في عقد الخمسينات من القرن الماضي، وحيث الصراع على الشرق الأوسط وسورية في ذروته ونشوء المأساة الفلسطينية "النكبة" في العام 1948، كان هو الحدث الرئيسي المحرك لكل هذه المشاعر المستعرة للعرب والمسلمين وحتى لجميع الشعوب الأخرى في آسيا وافريقيا، التي كان بعضها لا يزال يناضل من اجل التحرر والاستقلال.
ولعل التاريخ يكاد يعيد نفسه بذات الطريقة، اذا كان لنا مقارنة الدور التاريخي الذي يلعبه اليوم كل من الرئيس التركي رجب طيب اردوغان والعاهل السعودي الملك سلمان وامير قطر الشيخ تميم بن حمد، على غرار الدور الحاسم والقيادي الذي لعبه كل من جمال عبد الناصر والرئيس الهندي نهرو واليوغسلافي تيتو على المسرح السياسي العالمي في عقد الخمسينات، وكانت الأزمة او الصراع على سورية في ذروته وكذا نشوء وصراع التحالفات.
ان العاهلين من أبناء عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة السعودية هما فيصل الذي قتل مغدورا وسلمان، هما من سيقدر لهما لعب الدور الرئيس والحاسم في غضون الخمسين عاما الماضية لإحداث التحولات البارزة في الدور الإقليمي والاستراتيجي للمملكة، وهو الدور المؤثر الذي اظهر في كلا المناسبتين الوزن الحقيقي لهذه المملكة، والقيادي الذي يتناسب وحجمها الجيو استراتيجي الجغرافي والمالي والايديولوجي.
واذا كان فيصل هو الأب الفعلي والمؤسس لفكرة الدور القيادي الإسلامي للسعودية منذ خمسينات القرن الماضي، ووحدة هذا العالم الإسلامي ككتلة سياسية وازنة بالتحالف مع باكستان، ورعاية الدعوة الإسلامية عبر العالم وصولا الى انشاء المؤتمر الإسلامي العام1969، ردا على إحراق المسجد الأقصى في القدس، فإن سلمان هو من يلتقط الرمح من حيث القى به فيصل في العام 1975، ويلقي به الآن. وهل هي مصادفة ان فيصل انتهى في أواخر حياته بالصدام مع أميركا بعد لعبه ورقة النفط العام 1973 في حرب أكتوبر، وهو الموقف الذي لن يغفره له هنري كيسنجر في حينه. وان جزءا من مبادرات الملك سلمان الآن بالتحالف مع رجب طيب اردوغان لا تزعج روسيا فقط، ولكن أوروبا وأميركا بنفس القدر. اذا كانت لعبة الأمم على مدى المئة عام الماضية انما كانت تتم وتجري على حساب الشقاق في هذا العالم الإسلامي الكبير والواسع، واستغلال تناقضاته على حد سواء. وان مأثرة سلمان اليوم هي في ذهابه خطوة اكثر راديكالية من فيصل بتحويل هذا التحالف الإسلامي السني الى حلف عسكري يمكنه ان يملك أنياباً ضاربة.
ورجلان سوف يقدر لهما أخذ مصير وقيادة تركيا كلٌ منهما على النقيض من الآخر الى اتجاهين مضادين، وذلك ردا على الإهانة الكبرى او الهزيمة التاريخية التي تعرضت لها الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى منذ مئة عام. اما هذان الرجلان فإنهما مصطفى أتاتورك ورجب طيب اردوغان.
وإذ أخذ الأول تركيا الى حيث الدخول في نظام الخصم بل والتماهي مع ثقافته وهويته العلمانية والقطيعة مع الشرق والهوية الإسلامية، وكل ما يصل تركيا بأرثها العثماني، فأن اردوغان العثماني لا يقوم منذ عشر سنوات بعملية تصحيح كبرى منهجية ومتواصلة للقطع مع هذا المسار الذي ارساه اتاتورك، ولكن دافعاً ليس خفياً من الثأر والانقسام ما برح يعبر عنه الرجل في نبرة خطاباته بتسوية هذا الحساب القديم مع الغرب، والذي لا يزال مفتوحاً منذ قيام هذا الغرب بتفكيك الإمبراطورية العثمانية. فهنا ليس على تركيا استعادة روحها التي سلبت منها في هذا الشرق، وانما الرد على هذه الهزيمة واستعادة وزنها ودورها وحضورها القيادي التاريخي.
وكان خطابه واضحاً بقدر ما كان كعادته قويا كما لو ان روح سليمان القانوني هي التي تتقمصه، وحرص عبد الحميد آخر سلاطين بني عثمان على فلسطين، وهكذا كانت النقطة الأولى هي بيت المقدس وفلسطين. او لم ينشأ هذا الحلف من اجل تحرير فلسطين وبيت المقدس؟ وهذا ليس تحولا في الخطاب كاد يختفي ولكنها نقطة البداية وحجر الزاوية في إعادة تصحيح الإهانة والرد على الخديعة الكبرى عام 1916 لضرب العرب بالأتراك ضرب المسلمين بالمسلمين، دع البرابرة يقتلون البرابرة. ليقف الجنرال اللنبي أمام قبر صلاح الدين ويذكره: لقد عدنا.
فمن هنا البداية من فلسطين وتصحيح الاختلال في التوازن العالمي، "نحن ربع عدد البشرية وسكان العالم"، وآن الأوان استنادا الى وحدتنا ان نلعب ورقة قوتنا، لا بالدخول في نظام الخصم الظالم وانما لإعادة تركيب هذا النظام العالمي من جديد، وفي القلب من هذه العملية إصلاح الهيكل الراهن والمتقادم للأمم المتحدة ليكون للمسلمين مقعدهم الدائم.
هل هذا هو اذا الشرق الأوسط الجديد الذي يعاد اليوم بناؤه؟ بعد ان فشلت او انهارت أحلامهم: شمعون بيريس وجورج بوش الابن وكونداليزا رايس بإعادة بنائه في غضون السنوات العشرين الماضية، ولكن هذه المرة على سيبة ثلاثية هي قوام قواعد عرش أبوللو الثلاثية، وتعيد تذكيرنا بالثلاثي من القادة العظام ناصر ونهرو وتيتو.
وحيث في الصورة لا بد من الإشارة الى أمير شاب تنازل له والده عن الحكم هو أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، من يمثل الرجل الثالث في هذه القصة الى جانب الملك سلمان بن عبد العزيز ورجب طيب أردوغان. ولعل في هذا الدور الذي تستطيع فيه إمارة صغيرة بحجم ضئيل يكاد لا يرى على الخارطة، ما يدعو الى التأمل والإعجاب.
ان أهمية ودلالة ما يحدث هو ان فلسطين تستعيد مركزية وأولوية قضيتها العادلة على هذه الأجندة الإقليمية، التي يعاد رسمها وتخطيطها من جديد. وذلك بخلاف التقديرات السائدة لدى الكثيرين ولسيما في إسرائيل من ان الاحتراب الداخلي العربي وما يبدو فوضى غير مسيطر عليها، سوف تلقي بظلالها القاتمة على انزياح هذه الأولوية.
وإذا رأينا في التحول الأميركي والأوروبي ما يبدو بداية القيام بسحب البساط من تحت إقدام الاحتلال الإسرائيلي، فان ولادة هذا التوازن الإسلامي الجديد انما هو الضربة الثانية على الرأس التي توجه الى إسرائيل، بعد الانفضاض الغربي الأميركي والأوروبي عنها. وهيا اذن الى تمهيد الطريق الى القرار التاريخي في مجلس الأمن الدولي لفرض الحل وجلاء الاحتلال بقوة الإكراه، وإصلاح الخطأ التاريخي الذي ارتكبه الغرب قبل مئة عام. اذا كانت الرسالة قد وصلت في اجتماع اسطنبول الأخير الى الغرب وإسرائيل على حد سواء من ان فلسطين هي العنوان. ولقد كانت هذه القمة بالأخير بمثابة العود الى البدء من اجل العدالة والسلام لفلسطين.