إذا ما فاز المرشح الديمقراطي، بيرني ساندرز في الانتخابات التمهيدية في ولاية نيويورك الثلاثاء القادم على خصمه هيلاري كلينتون فإن فرصته بأن يكون مرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية القادمة ستتعاظم.
ساندرز، الذي ينتمي فكرياً الى اليسار الاشتراكي ـ الاجتماعي، ليس مجرد ظاهرة طارئة في حياة الأميركيين، هو تعبير عن حركة جماهيرية ضاقت ذرعاً بالسياسات التي أفرزتها سيطرة أصحاب رؤوس الأموال على الدولة : عدم وجود تأمين صحي لعشرات الملايين، ملايين المُفقرين، بطالة تصل الى 36٪ بين الشباب من الفئة العمرية ما بين 17 و 20 عاماً، فقدان الملايين لمدخراتهم وحتى بيوتهم عندما أعلنت العديد من الشركات إفلاسها نهاية العشرية الأولى من هذا القرن، حد أدنى من الأجور لا يكفي لتغطية النفقات العادية للمواطن الأميركي، انتقال لآلاف الشركات من أميركا الى دول في آسيا وأميركا اللاتينية وما يسببه ذلك من فقدان عشرات الآلاف من الأميركيين لوظائفهم، التكاليف الخيالية للدراسة الجامعية وما يخلفه ذلك من ديون على الطلبة عليهم سدادها بعد التخرج.
كل هذا في الوقت الذي يمتلك فيه أقل من 1٪ من الأميركيين ما يمتلكه 99٪ منهم. أو بحسب ساندرز، تمتلك عائلة (والتون) لوحدها (صاحبة سلسلة الوول مارت) أكثر مما يمتلكه 40٪ من الأميركيين. وهذا كله أيضاً في وقت صرفت فيه أميركا على حربها الظالمة في العراق ما يعادل تريليون دولار خلال الأعوام التي امتدت ما بين الغزو في 2003 والرحيل في 2010.
ساندرز يتحدث عن ثورة سياسية. عن تحرير للسياسة الأميركية من هيمنة أصحاب الشركات الكبيرة وجماعات المصالح عليها.
في رأيه، تبدأ هيمنة وول ستريت (أصحاب المال) على المؤسسة السياسية الأميركية من خلال الأموال التي يتبرعون بها للمرشحين للرئاسة أو الكونغرس، ومن خلال هيمنتهم على الإعلام.
الانتخابات في أميركا مُكلفة بشكل خيالي. للتنافس فقط على الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي أو الجمهوري، يصرف المرشح أكثر من 150 مليون دولار. وللمنافسة على الرئاسة يحتاج المرشح لأضعاف هذا المبلغ. هذه مبالغ، لا يستطيع توفيرها إلا بليونير مثل دونالد ترامب. لذلك، تقوم الشركات الكبيرة بتمويل حملات المرشحين الانتخابية، وهو ما يعني بأن المرشح للرئاسة لا يمثل حقيقة مصالح الجمهور الأميركي ولكن مصالح الشركات التي غطت تكاليف الحملة الانتخابية.
يرغب السياسيون في الولايات المتحدة دائماً بإخفاء هذه الحقيقة، لكنها اليوم وبفضل ساندرز، في قلب النقاش عن معنى الديمقراطية في أميركا: كيف تكون هنالك ديمقراطية حقيقية عندما تكون خيارات الأميركيين محصورة في مرشحين يفرزهم لهم أصحاب المال؟
ساندرز كسر المعادلة ببناء شبكة من وسائل الاتصال الاجتماعي مكنته من جمع أكثر من 150 مليون دولار من مواطنين أميركيين عاديين يرغبون في تحرير بلدهم من هيمنة أصحاب المال عليها.
كان باراك أوباما قد قام بذلك العام 2008، لكنه بعكس ساندرز، لم يمتنع عن قبول الدعم المقدم من الشركات الكبيرة لحملته الانتخابية. وربما يفسر هذا من بين أسباب أخرى سبب قيامه بدعم مشروع دفع مئات البلايين من الدولارات للشركات التي أعلنت إفلاسها.
الحاجة للمال والإعلام أيضاً، يفسر سبب تهالك وتنافس المرشحين في انتخابات الرئاسة على إعلان الولاء لإسرائيل ظالمة أو مظلومة، وسبب تقديمهم لهذا الولاء في الإيباك، عرين إسرائيل في الولايات المتحدة.
وحدة ساندرز من رفض التوجه للإيباك لإلقاء خطاب الولاء لإسرائيل. ليس فقط لأنه يعتبرهم جزءا من أصحاب المصالح التي تهمين على السياسات الأميركية، ولكن لأنه يعتقد أيضاً بأن دعم إسرائيل يترتب عليه قيام الأخيرة بانتهاج سياسات تنهي الصراع مع الفلسطينيين.
ساندرز لا يخفي ارتباطه النفسي بإسرائيل. هو ينحدر من عائلة يهودية، وكان قد عاش في كيبوتس إسرائيلي مع والديه بعض الوقت. لكن ما هو حقيقي في ساندرز بأنه لا يخاطب اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة مثلما تفعل كلينتون، أو يفعل غيرها من مرشحي الرئاسة، ولكنه يخاطب الأميركيين لأنه يريد دعماً منهم لسياساته.
لذلك تعتبر الرسالة التي وجهها ساندرز للأميركيين بخصوص الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي على درجة عالية من الأهمية لأنها تمثل اتجاها جديدا في السياسة الأميركية يتعزز يومياً.
الرسالة تقول بأن هنالك عشرات الملايين من الأميركيين الذين يدعمون ساندرز لا يتفقون مع سياسات بلادهم التي لا تكترث لما يعانيه الفلسطينيون، وتعمل فقط على حماية إسرائيل أياً كانت سياستها.
ساندرز يقر في رسالته بأن الحصار على غزة ظالم ويجب أن ينتهي، وهو يقر بأن إسرائيل قتلت الآلاف من الفلسطينيين المدنيين في غزة، وأن صواريخ «حماس» التي يدينها لا تبرر ما اقترفته ولا زالت في غزة. وهو أيضاً يقول للأميركيين، بأن سلامة إسرائيل تتوقف على إنهاء الاحتلال والظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون.
هذا كلام جديد لم يقله قبل ذلك أي رئيس أميركي، وأهميته تكمن في أن الذي يقوله مرشح للرئاسة. بمعنى في الفترة التي يحاول فيها كل المرشحين إخفاء مواقفهم الحقيقية من الصراع بإعلان ولائهم غير المشروط لإسرائيل من أجل الحصول على المال والدعم الإعلامي، يقول ساندرز مواقفه الحقيقة علناً، وهو لا يخشى ذلك لأنه يثق بأن هنالك عشرات الملايين من الأميركيين ممن يدعمون مواقفه هذه.
قد لا ينجح ساندرز في الحصول على ترشيح حزبه الديمقراطي، لكنه أحدث حركة جماهيرية ستتعاظم في السنوات القادمة وستتمكن من إعادة تأسيس النظام الأميركي السياسي على أسس جديدة في قلبها قيم العدالة الاجتماعية، والسلام، والأمن للجميع.


