بين الحقائق الصادمة ، والآمال المحلّقة ، بين التفسيرات و التبريرات المنطقية المُوجعة ، و بين الأصول و المبادئ الفطرية الوطنية والقومية ، بين الواقعية البراغماتية السياسية ، و بين رومانسية الثوار .. يجد الواحد منا نفسه ، في حيرة بعد سماعة خبر زيارة القادة ، للتعزية في جنرال درزي يخدم في جيش الإحتلال الصهيوني ..
الإشكال يقع في عدة نقاط ، و ربما ما زاد " الإستفزاز " ، هو محاولات بعض الكتاب ، و المعلقين و السياسيين ، إما إنقاذ الموقف ، و رتق الممزق ، أو جبر ما تكسر ، بكلمات مصفوفة بشكل محير ، و متاهة إختلط فيها الواقع بالخيال ، فزادوا الطين بلة ، أو في الطرف النقيض ، محاولات آخرين إشعال الموقف ، و تعميمه ، و النفخ في الكير و ملأ الدنيا بالفوضى و الصراخ و العويل .. ولكن ورغم كل هذا ، فالزيارة الإنسانية ، جاء تبريرها على لسان أصحابها ، بشكل يجعلنا نستحضر المثل القائل ( جاء ليكحلها ، فعماها .. ) و يذكرنا بقصص أولئك الشبان الذين كانوا يبررون تواجدهم في بارات و ملاهي أوروبا ، بأنهم يقومون بعملية " رصد " لصالح الثورة .. و يذكرنا بالأفلام العربية أو الهندية ذات الإخراج و السيناريو الهابط من نوع ( أي كلام يا عبد السلام ) .. فتبرير المواساة بأنها لإستمالة الدروز ، فيه قولان ووجهان ، كلاهما قبيح ، الأول يعني : يا أيتها الطائفة الدرزية ، أنتم بلهاء ، و نحن زرناكم ، لنضحك عليكم و نستميلكم .. و الوجه الآخر يقول : يا أيها الناس ، بهذا التبرير ، نحن لا نحترم عقولكم ، و نقول لكم كلاماً غير منطقي ، لأننا نعرف أنكم بلهاء و ستصدقون ..
و الغريب ، أن هذه الزيارة ، التعزية ، المواساة ، جاءت في يوم الأرض .. ولك أن تحدث و تصف و تعدد مناقب و رمزيات ، يوم الأرض ، و كيف جاءت هذه الواقعة لتشكل لطمة ، و إهانة للذكرى و المتذكرين .
و حتى إن تناسينا ، أو تعالينا ، و " طنشنا" كل ما سبق ، فالقول بأن المذكور ، الميت ، كان صديقاً ، وكان يعمل في الإدارة المدنية ، و كان يقوم بتقديم تسهيلات و خدمات ، و كان وكان .. فهذا أيضأ " أي كلام يا عبد السلام .. " فهذه الإدارة المدنية تتبع جيش إسرائيل ، الجيش المحتل ، الجيش الغاصب ، المعادي ، الذي يقتل كل يوم و يدمر و يحرق قلوباً و بيوتاً .. و أي تبرير و أي تفسير غير هذا ، هو تبجح و إهانة لكل فلسطيني على هذه الأرض ، بل لكل القيم و المبادئ و الأخلاق .. و التذرع بمشاركة النبي في جنازة منافق ، إقحام للدين في غير محله ، فلستم أنبياء و الميت ليس منافق ، أو قولوها وورطوا أنفسكم ، بأن الميت منافق !!
و أي محاولة لتشبية ما حدث ، بتعزية القائد الرمز بإسحق رابين ، هي أيضاً محاولة بائسة ، ببساطة لأن التوقيت و الظرف ، و موت رابين و ظروف إغتياله ، كان يحتم الزيارة و المواساة في وقتها ، بل يقوي الموقف الفلسطيني أمام قوى الإرهاب الصهيوني ..
غلطة الكبير ، كبيرة ، و هنا يجب أن نقرر إحترامنا للأشخاص ، و عدم توفر أي نية لدينا للنيل من شخوصهم ، وقاماتهم ، و تاريخهم ، و نضالاتهم .. ولكن أخطأ عمر ، و أصابت إمرأة ، فإعتذر و تراجع عمر ... و لا أعتقد أن بين ظهرانينا ، من يصل بقدره إلى سيدنا الفارق عمر بن الخطاب ، بالتالي وجب الإعتذار ، ووجب التوضيح ليس فقط للتوضيح ، بل يجب أن يشتمل التوضيح على الكثير و الواضح المباشر من صيغ الإعتذار و الندم ، الإعتذار لشهداء يوم الأرض ، الإغتذار لكل الشهداء و المصابين و النازحين و اللاجئين و النائمين في الشوارع و الأسرى و المعتقلين و الثكالى و الأطفال اليتامى ، و الإعتذار لسميح القاسم ، و الإعتذار لكل عربي درزي حر رفض و يرفض أي نوع من أنواع الإنخراط في جيوش الإحتلال باي صفة أو تحت أي مسمى .. الإعتذار لمن تمثلون ، وقد ذهبتم بصفة رسمية ..
أما أن تذهب بصفتك الشخصية ، و تعلن هذا ، فهذا شأن آخر .. و هذا لا يمثل مؤسساتنا و لا شعبنا و لا مبادئنا ولا قيمنا ، بل هو بقرار شخصي يمثل من قام به ، يمثل مبادئه و مفاهيمه هو ، وهو فقط من الجنرال الصديق ..


