نحن نخطئ والزمن يعاقب، هل نتحقق الآن من صحة هذه الفرضية او القاعدة، ولكن اكثر من أي وقت مضى لمناسبة عودة الإرهاب ليضرب مجددا في قلب أوروبا. ان هذه لحظة أخرى للتأمل في القصص الحزينة بل المآسي لدول وحضارات وامبراطوريات سقطت في الماضي جراء هذه العواقب المنكودة كجزاء وفاق لأخطاء وحماقات كانت قد ارتبكت حتى في أزمان مضى عليها مئة عام، وكأنما التاريخ كالآلهة القديمة والتي كانت على صورة الانسان المتوحش لا تنسى ولا تغفر.
السلام عليك يا أوروبا البيضاء الناصعة الوردية الجميلة في المرآة التي نرى فيها صورتك. ولا نملك نحن آخر تجسيد حي وشاهد على أخطائك وضحايا هذه الأخطاء، الا ان نقرأ على محنتك هذا السلام.
قال فولتير احد اشهر آباء حركة التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر: "اريد ان اتجه بنظري صوب الشرق لأرى الطريق التي سارت عليها الحضارة". لكن أوروبا الرأسمالية لم تذهب في القرن التالي او الذي بعده الى هذا الشرق، ما سيتحول لاحقاً الى مصدر الإرهاب لكي ترى او تدرس هذه الطريق التي تحدث عنها فولتير وقادت البشرية الى الحضارة من مصدرها الأول، من هذا الشرق الغامض والساحر.
لقد ذهبوا الى هناك يسبقهم جيش من المستشرقين والمستكشفين الجغرافيين والجواسيس والأفاقين والمغامرين، ليدرسوا الطريق الى غزو هذا الشرق ونهب ثرواته واستعباد شعوبه واسترقاق شبابه في جيوش المستعمرات كوقود في الحروب الرأسمالية في الحرب العالمية الأولى.
مئة عام في مثل هذه الأيام والاوقات، وبين اتفاق ايدن وكليمانصو خلال مسيرة سيارة اقلتهما من مكان الى مكان، واتفقا خلال هذه الرحلة القصيرة على كيفية اقتسام غنائم الحرب، الغنيمة الكبرى التي هي الشرق ترك امر تفاصيلها الى سايكس وبيكو.
كانت أوروبا الفتية الصاعدة سيدة العالم لا تنازعها قوة أخرى منافسة تمارس محكوميتها العالمية، اقامت عصبة اممها الخاصة على مقاسها وبجرة قلم رصاص كانت ترسم الخرائط لتقيم دولا جديدة وتمحو بلاداً أُخرى عن الخارطة. وهكذا ولدت المأساة الفلسطينية عند هذه اللحظة التاريخية بوعد شهير من وزير خارجية بريطانيا العظمى بلفور الى رجل الأعمال اليهودي روتشيلد.
وبعد ان خلقت بنفسها ما يسمى بالمسألة اليهودية سوف تخلق بعد ذلك من هذه البذرة انفجار الشرق. كان الخوف من ظهور شبح آخر لزعيم قوي يوحد الشرق بعد القضاء على محاولة محمد علي في مصر، استلهاماً لتجربة بسمارك هو الدافع الخفي لاختراع إسرائيل التوراتية، كأسفين او خنجر في هذه المنطقة على هذا الساحل الذي يربط آسيا بأفريقيا، الجناح الشرقي من العالم العربي بالجناح الغربي.
وبهذه العملية غير المستبصرة لعواقب التاريخ تم إعادة اطلاق كل ارث ومخزون الشرق القديم من التناقضات الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية، والتي كانت لا تزال مكبوتة دفعة واحدة من عقالها. وبدا أن ألف عام من تعايش القبائل المحلية اليهودية والمسيحية تحت حكم الإسلام والعنصر القومي العروبي في سبيلها الى الاندثار. وهو التحول الذي ما لبث ان عبرت عنه سلسلة ممتدة ولا نهائية من حروب العرب مع إسرائيل، والحروب الأهلية العربية الداخلية وصولا الى بروز ظاهرة الهجرة الجماعية من الشرق الى الغرب والإسلامفوبيا والإرهاب.
وسيراً على ذات الإرث وتقاليد الاستعمار الأوروبي القديم في مستهل، وفي انقلاب فظ وتنكر لمذهب الرئيس الاميركي ويلسون حول حق الشعوب في تقرير المصير، أعاد جورج بوش الابن عند مستهل العقد الأول من القرن الحالي الواحد والعشرين، وفي لحظة من الطيش السياسي النادرة أعاد نبش الذاكرة المأساوية للارث الاستعماري القديم، التي بدا لحين كما لو ان هذا القبح والعار قررت البشرية ان تطويه وراءها في غياهب النسيان. ان سليل آل بوش من اثرياء تجارة النفط في تكساس وبالتحالف مع توني بلير قررا غزو العراق، وكانت الخطة تشمل غزو العراق باسم الديمقراطية ومحاربة الاستبداد، إعادة فك وتركيب سورية وربما لاحقا السعودية. وذلك لمحاربة واقتلاع مصدر الإرهاب والشر في منبعه وبقية القصة معروفة.
حل الإرهاب وولد تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بداعش مكان القاعدة واسامة بن لادن وصدام حسين وحزب البعث العراقي والسوري، حينما غضت أميركا وأوروبا الطرف وشجعت بعض الأطراف الإقليمية على فتح باطن سورية بعد فتح باطن العراق.
وهل كانت سورية والعراق بغداد ودمشق عاصمتي الامويين والعباسيين اللتين حكمتا العالم في وقت من الأوقات في الميزان الجيو سياسي، دولتين هامشيتين تقارنان بالصومال؟.
لن يختاروا الذهاب اذن في هجرتهم الجماعية الى مكة المكرمة الأكثر قربا التي تمثل ديار الإسلام، وانما بغريزتهم وفطرتهم الجمعية في اللحاق بالغرب نفسه لتقاسم الثراء والرفاه والاستقرار معه. وبالمثل أيضا الضرب في قلبه بهذا الإرهاب. من مدريد الى لندن وباريس ثم بروكسل مرورا بكاليفورنيا بأميركا. وكان شبح بن لادن وأبو مصعب الزرقاوي ثم أبو بكر البغدادي كما لو انه هو الذي يلقي بظله الثقيل مهددا الاستقرار العالمي، ويطرح معه علامات أسئلة كبيرة ما برحت تعاود البروز مجددا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، عن جدارة ومناعة الحضارة الإنسانية ككل بالقدرة على مواصلة المنعة والصمود إزاء هذا الإرث القديم من العداوات بين الشرق والغرب، الذي يطل برأسه من الماضي القريب وفي ظل التنكر لهذا الإرث وتجاهل استمرار هذا الاختلال في التوازن، الذي تقوم عليه العلاقة بين الشمال والجنوب.
والى يومنا هذا لم يجر قطع مع هذا الإرث الماضي، فلا زالت فرنسا تتردد في تقديم الاعتذار للجزائر، وكذا لم تفعل بريطانيا الى الآن تجاه الشقاء الذي لا زلنا نعاني منه نحن الفلسطينيين.
وكان المنظر الحربي البريطاني الشهير ليدل هارت هو الذي لاحظ بعيد الحرب العالمية الثانية في سياق تحليله لهذه الحرب، ان مشكلة أوروبا كانت تكمن في ان هتلر لم يكن يملك استراتيجية واضحة لما يريد، وانما تفوقا من هذه الاستراتيجية مقارنة باوروبا على حد سواء، التي لم تكن تملك أي استراتيجية. والراهن اليوم انه بينما يظهر أبو بكر البغدادي كما لو انه هو الذي يملك زمام المبادرة وهذه الاستراتيجية والتي مؤداها ببساطة ما قاله بن لادن: "من انهم اذا سمحوا لأنفسهم لغزونا والقدوم الى بلادنا لقتلنا، فلنذهب اليهم لقتلهم في بلادهم". فإن أوروبا والغرب ككل لا يملكون استراتيجية تخرج عن نطاق هذه الحلقة او الدائرة المفرغة والجهنمية من القتل والقتل والمضاد. والذي يذهب ضحيتها هنا وهناك الأبرياء.
فهل نتحقق اليوم من انه الى جانب عدم القطع مع ارث الماضي وتنقية الذاكرة، فإن الاختلال والخطأ يكمن في فشل الاستراتيجية المتبعة حتى الآن في محاربة الإرهاب، اذا كانت هذه الاستراتيجية لا تني تكرر أخطاء الماضي بالاعتماد فقط على الحل العسكري الأمني.
ولكن المفارقة او ما يدعو للسخرية في هذا السياق هو تدخل بنيامين نتنياهو بما يشبه إضفاء مسحة من الكوميديا السوداء على المشهد ككل، حينما يظهر هكذا فجأة بينما كان من الأفضل له وللأوروبيين أن يتوارى عن الأنظار، ليعقد مؤتمراً صحافياً مصطنعاً يدعو فيه أوروبا التعلم منه كيف يحارب الإرهاب، ولكن لكي يقول ان الفلسطينيين يمارسون نفس الإرهاب. ولا ندري أي دروس يمكن ان يقدمها هذا الممثل لآخر احتلال يذكر العالم والأوروبيين بقبح ماضيهم الاستعماري الثقيل؟ اللهم الا وضع مهمة انهاء هذا الاحتلال الإسرائيلي نفسه، باعتباره حجر الزاوية والاساس في استراتيجية دولية للقضاء على الإرهاب، الذي يتغذى أيضا في احد دوافعه الرئيسية والمباشرة على جرح الفلسطينيين الذي لم يغلق منذ مئة عام.


