كما في الماضي، ليس ثمة إمكانية واقعية، لا في الحاضر، ولا في المستقبل، لأن يتفق العرب، أو أن يتفق "العجم"، أو أن تتفق الدول والشعوب، فما بالك أن يتفق العالم، على معيار واحد للتمييز بين حركات تمارس المقاومة، وحركات تمارس "الإرهاب"، أو للتمييز بين دول تدعم المقاومة ودول تدعم الإرهاب، وتموله، وتسلحه، وتستثمر فيه.
فلو كانت الإمكانية، هنا، واردة، لكان العالم بأسره، دولا وشعوباً، أجمع، منذ نحو سبعة عقود، على أن إسرائيل، (مثلاً)، هي، على الأقل، في مُقدَّم الدول التي تمارس إرهاب الدولة المُنظم، المُقونن، والمُخطط. ولكان، (العالم)، أجمعَ، مثلاً، وأيضاً، على أن أجهزة الاستخبارات الأميركية، وأجهزة استخبارات عربية وإقليمية و"غربية" حليفة لها، هي التي مولت، وسلحت، واستخدمت الحركات الإرهابية، في شكلها الإسلاموي التكفيري، لمحاربة الوجود السوفييتي في أفغانستان، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
الإشارة السريعة السابقة مهمة ليس، فقط، كمدخل، لا بد منه، لتفسير اختلاف العرب، دولاً وشعوباً وأحزاباً ومنظمات نقابية وأطر نسوية وشبابية واتحادات جماهيرية...الخ، حول قرار دول "مجلس التعاون الخليجي"، ثم وزراء الداخلية العرب، (وإن بلا إجماع)، اعتبار حزب الله حركة إرهابية، إنما، أيضا، كمدخل لا غنى عنه، (وهنا الأهم)، لتظهير المخاطر التي ينطوي عليها، ويحملها، التعامل مع هذا القرار بروحية مع أو ضد ونقطة، في زمن عربي رسمي ضاعت فيه الطاسة، واختلط فيه الحابل بالنابل، وتاهت فيه الأولويات، والتبست فيه المعايير، حتى صار المتن هامشاً، والهامش متناً، والأساس فرعاً، والفرع أساساً، وصار "الحلال البيِّن حراماً"، و"الحرام البيِّن حلالاً"، وأصبحت القضايا العربية المركزية كافة، وليس قضية فلسطين، فقط، هامشية، والقضايا الهامشية مركزية، وصولاً إلى التباس بداهة أن لا حرية ولا ديمقراطية من دون استقلال وسيادة وطنييْن، وبداهة أن لا استقلال وسيادة وطنييْن من دون حرية وديمقراطية، وبداهة أن لا حرية، ولا ديمقراطية، ولا استقلال، ولا سيادة، ولا عروبة سياسية، ولا حد أدنى من العدالة الاجتماعية، مع استقدام التدخلات السياسية والعسكرية الأجنبية، خصوصا "الغربية" بقيادة واشنطن، صاحبة نظرية "الفوضى الخلاقة"، بما غذته، وأفرزته، واستخدمته، من حركات إسلاموية تكفيرية إرهابية، وكانت نتائج تطبيقاتها في أفغانستان والعراق، أول الغيث، والنموذج الذي يجري تطبيقه، بأشكال وسيناريوهات مختلفة، في عدة دول عربية وإقليمية، فيما لا يزال الحبل على الجرار.
عليه، ليس دفاعاً عن حزب الله، إنما انصاف له، ومنع لتسطيح ما أثاره قرار وصفه بالإرهاب من جدل ساخن،( وهو ليس بلا فائدة على أية حال)، وتنبيه لما ينطوي عليه، برأيي، من تبعات ومخاطر، فلنطرح للتفكير الهادئ، والحوار المسؤول المثمر، النقاط الآتية:
أولاً: بما أن لا حرية ولا ديمقراطية من دون استقلال وسيادة وطنييْن، وبما أن إسرائيل التي تحتل فلسطين، وأجزاء من أرض دول عربية أخرى، وتعمل منذ قيامها، في السر والعلن، وبالأشكال كافة، وبكل ما تستطيع، وهو كبير، على محاربة كل مشروع أو محاولة عربية جدية وجادة للتحول الديمقراطي السياسي والاجتماعي، فلنسأل المندفعين، بلا تدقيق لتأييد قرار اتهام حزب الله بالإرهاب أربعة أسئلة أساسية، هي: ألم يواجه حزب الله إسرائيل، (بعد إخراج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان في العام 1982)، بمقاومة جدية وجادة، أجبرتها، في أيار 2000، على سحب جيشها من جنوب لبنان، بلا قيد أوشرط؟ أظن أن هذه مسلَّمة غير قابلة للدحض، ويقر بها قادة إسرائيل أنفسهم، على اختلاف أحزابهم، ومجالاتهم السياسية والعسكرية والأمنية.
ثم، ألم ينتصر حزب الله على إسرائيل، حين أفشل أهداف حربها العدوانية المبيتة على لبنان في تموز 2006؟ أظن، أيضاً، أن هذه حقيقة لا جدال فيها بعدما اعترفت بها "لجنة فينوغراد" للتحقيق في مجريات ونتائج تلك الحرب.
ثم، أليست حقيقة أن إسرائيل ما زالت تعتبر حزب الله التهديد العسكري العربي المركزي الذي تحسب له ألف حساب عندما، وكلما، فكرت بشن حرب جديدة على لبنان؟ أظن، أيضاً، أن هذه مسألة مؤكدة، بعدما باتت محط إجماع إسرائيلي، ولم تعد سجالية بين اجتهادين، مع وضد، على الأقل، حسب تشخيص واستخلاصات "مؤتمر هرتسليا السنوي للأمن القومي" في السنوات الأخيرة.
ثم، ألم يقدم حزب الله تضحيات بشرية كبيرة، جسيمة، وغالية، في معمعان المواجهة الطويلة والمستمرة مع إسرائيل، منذ تأسيسه في العام 1982؟ نعم طبعاً. ناهيك عما ارتكبته إسرائيل بحق جمهور الحزب من مجازر ومذابح فاقت كل تصور، ومن تدمير وحشي مادي واقتصادي متكرر، لأماكن تواجده، وبالذات في مدن وقرى جنوب لبنان، والضاحية الجنوبية لبيروت.
ثانياً: إذا كان في عداد البدهي أن يحرص كل عربي، وكل مسلم، إن شئتم، على منع انزلاق لبنان، مرة أخرى، إلى هاوية الحرب الأهلية، فلنسأل: ألا يشكل حزب الله مكوناً أساسياً في الخارطة السياسية الوطنية اللبنانية؟ أظن أن هذا واقع، وإلا لما صار الحزب لاعباً فاعلا في "فريق 8 آذار" مقابل "فريق 14 آذار"، كفريقين، فقط، بتوافقهما يمكن تشكيل حكومات لبنانية "تحفظ وحدة لبنان"، و"تصون سلمه الأهلي"، و"تضمن عيشه المشترك"، حسب مفردات السياسيين اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم الدينية ومشاربهم الفكرية وتوجهاتهم السياسية ورؤاهم الاجتماعية.
ثالثاً: إذا كان قرار اتهام حزب الله بالإرهاب، نابعا من أنه يؤمن بـ"ولاية الفقيه" في إيران، فالحزب نفسه يعلن ذلك، ويفتخر به، جهاراً نهاراً.
لكن، لنسأل: هل حزب الله هو الحزب اللبناني الوحيد، أو العربي الوحيد، الذي يتشكل على أساس ديني أو طائفي أو مذهبي، أم أن هذه هي حال أغلب، وأكبر، وأهم، الأحزاب اللبنانية، فضلا عن أحزاب وحركات عربية أخرى؟ أما إذا كان قرار اتهام حزب الله بالإرهاب، نابعا من أن الحزب حليف لإيران وسورية، فالحزب لا ينكر تحالفه مع هاتين الدولتين، بل يعترف، ويجاهر، بانخراطه في تحالف معهما، من الرأس حتى أخمص القدم.
لكن، لنسأل: هل حزب الله هو الحزب اللبناني الوحيد، أو العربي الوحيد، الذي يتحالف، ويعلن تحالفه، مع أنظمة عربية وإقليمية ودولية، أم أن هذه هي، أيضاً، حال أغلب، وأكبر، وأهم، الأحزاب اللبنانية، عدا أحزاب وحركات عربية أخرى؟
رابعاً: إذا كان قرار اتهام حزب الله بالإرهاب نابعا من تدخله العسكري في الصراع الدائر في سورية، وعلى سورية، فالحزب يرى في تدخله هذا ضرورة يمليها واجب محاربة الحركات الإسلاموية التكفيرية الإرهابية، وكل ذلك في إطار رؤية دينية ووطنية وقومية وإنسانية وأخلاقية، ما انفك الحزب، يشرح دوافعها وأسبابها، ويدافع عنها. لكن، لنسأل: هل حزب الله هو الحزب اللبناني الوحيد، أو العربي الوحيد، الذي يتدخل فيما بات يسمى الأزمة، وللدقة الكارثة، السورية، أم أن هذه هي حال جميع الأحزاب اللبنانية، وأحزاب وحركات عربية أخرى، بل ودول عربية وإقليمية وعالمية شتى، بمعزل عن حجم ووجهة وأشكال التدخل؟! إن السؤال هنا، هو بصيغة أخرى، إذا كان تدخُّل حزب الله العسكري في الصراع الدائر في سورية، وعلى سورية، قضية سياسية مُختلفا عليها، داخل لبنان، وخارج لبنان، وفي العالم بأسره، "عرباً وعجماً"، فهذا صحيح مئة بالمئة. لكن، أليس الاختلاف، هنا، هو تفريع للاختلاف الأصل حول كل أبعاد الأزمة السورية المعقدة والشائكة والقابلة لتعدد التأويلات، ولتنوع الاجتهادات، بما في ذلك الاختلاف حول: "من هو إرهابي"، و"من هو غير إرهابي"، من الجماعات المسلحة التي تقاتل في سورية، وبالتالي حول إن كان ما يجري في سورية منذ خمس سنوات، "ثورة داخلية" فقط، أم "تدخلا خارجيا" فقط، أم أنه، من وجهة نظر ثالثة، بدأ، (كما حصل في أكثر من قُطْر عربي) حراكاً شعبياً سلميا ينشد، محقاً، الحرية والديمقراطية والإصلاح والتغيير، لكنه سرعان ما تَعَسكر، بفعل لاعبين عرب وإقليميين ودوليين معروفي الاسم والمصلحة، قاموا، ولا يزالون، بتمويل، وتسليح، واستثمار، واستخدام، مجموعات إرهابية تكفيرية بلا لبس أو شك، جلبوها من كل دول العالم، وأوجدوا لها "ممراً ومستقراً" في دول مجاورة لسورية.


