الوعي ، كلمة مأخوذة من الوعاء ، بمعنى ، شئ يُستوعب ، و يُحمل و يُحتوي .. والوعي بأمر ما يتضمن معرفته والعمل بهذه المعرفة. بالمحصلة فالوعي : هو ما يُكون لدى الإنسان من أفكار ووجهات نظر ومفاهيم عن الحياة والطبيعة و الأحداث و الحركة و الأشياء من حوله .
و تشكيل الوعي الجمعي عملية معقدة تتداخل فيها عدة مؤثرات و أدوات مباشرة و غير مباشرة ، كالتعليم و الموروث ، و المعتقدات ، و الإتصال . و هذه العملية التي تنتهي بتشكيل وعيً ، و فهم و تُبلور موقفاً جامعاً تجاه قضية ما ، هي من الصعوبة بمكان ، خاصة إذا كانت تستهدف مجتمعاً سليماً ، ينعمُ بالعيش في بيئة تعليمية و ثقافيةٍ و سياسية و أمنية و ظروف معيشية مواتية .
إلا أن الأمر يُصبح أكثر سهولة ، إذا كان المستهدف "مجتمع مريض " تم إنهاكه مادياً و سياسياً و أمنياً و صحياً .. فهو مجتمع جاهز و تربة خصبه لزرع أي وعي ، و إيهامه بالخلاص و الراحة من أمراضه ، إذا ما طوَّع عقله و إستوعب ما يُلقى عليه من مفاهيم و معلومات ، فإنه سيتحول من مجتمع يستوعب ، إلى مجتمع يؤمن ، بل يقاتل من أجل ما إستوعب ، يطور بشكل تلقائي حالة الوعي إلى حالة أيديولوجية .. و تتحول ببساطة لديه الفكرة من مجرد أنها فكرة إلى معتقد و دين ، و قيمة سامية يمكن أن يضحي من أجلها .
و إذا طبقنا هذا على ماهو ماثل أمام أعيننا نجد أن تبدل و تغيير المواقف الجامعة ، بتبدل و تغيير أدوات بث ( الوعي ) ، واضح لا لبس فيه .. من حالة ترتفع فيها نسب تأييد العمل العسكري طريقاً و حيداً لإستعادة الحقوق و حل الإشكالات الإجتماعية ، و التقدم نحو حل مريح و كريم .. إلى عودة الجهات المؤثرة و المشكلة للوعي الجمعي عن موقفها هذا ، و من ثم تحويل الدفة تجاه الجنوح إلى التهدئة و السكينة و الهدنة ، على أساس أنها الطريق الأمثل لإستعادة الحقوق و حل الإشكالات الإجتماعية و التقدم نحو حل مريح و كريم ..
و مرة أخرى ، أن الوحدة و إنهاء الإنقسام هي السبيل ألأوحد ، و الطريق الأسلم نحو إستعادة الحقوق و حل الإشكالات و التقدم نحو حل مريح و كريم ، وفجأة تتبدل المواقف ، فيتم تغيير موجة الوعي الجمعي بأن لا فائدة و لا طائل ، و أن إنشاء ميناء لغزة ، بتمويل ووصاية خارجية ، و سيطرة أمنية و إشراف و موافقة إسرائيلية أمر ( حلال ) ، فهو الحل الأمثل و الأنسب للخروج من المحنة و الحصار ، و الطريق الأمثل لإستعادة الحقوق و حل الإشكالات و التقدم نحو حل مريح و كريم ، و أي مُعترضٍ على هذا ، يجب نعته بكل ذميم ، و تسميته في قوائم الخونة و المُرتَدين ، و رجمه حتى الموت قولاً و فعلاً ..
عملية الإبتزاز ، و تشكيل الوعي ، و إستغلال ضعف و مرض جسد ، أنت أفقرته و أنت أمرضته ، يجعل صاحب هذا الجسد ، مُطَوَّع ، مُرحِّب بكل ما تقول ، فهو يريد أن يتعلق بأي قشة ، تنقذه من الغرق ، و هو لا يريد و لم يعد يحتمل فلسفة كاتب أو باحث ، و لم يعد قادراً على تحمل منطق أو حسابات ، هو يريد جرعة ، ترياق ، ولو كان من يد من وضع له السم أساساً .. فلا وقت ليفكر في صِدقِيَّة أو زيف صاحب الترياق و العلاج .. وكأن حالة الوعي الجمعي هنا أصبح لها عنوان هو ( داوها بالتي كانت هي الداءُ !! ) .. و مهما شرح المتنبهون ، و المنطقيون ، و الوطنيون أبعاد التبعية لدول أو جهات ، أو الإنشقاق ، أو سيطرة فصيل على معابر و حياة شعب ، لن يستمع أحد ، و سيتبخر أي كلام في الفضاء ، و يتحول إلى مجرد ضجيج لا معنى له ، من الأفضل إخماده و إسكاته .. و سيظل هذا الضجيج متهماً بانه هو المنفصل و هو المخرب و هو الداعي للإنقسام ..


