بين جميع المرشحين للانتخابات الأميركية نهاية هذا العام، يقف بيرني ساندرز وحيداً في مواجهة مُرشحي أصحاب رؤوس الأموال الأميركيين الذين يقررون بأموالهم وإعلامهم من حقه الفوز في الانتخابات القادمة.
صناعة النَمطْ هي أحد أهم وسائل النظام الرأسمالي في تقرير نتائج الانتخابات.
ملخص الفكرة أن أصحاب رؤوس الأموال ومن خلال إعلامهم يصنعون قواعد عامة تصبح مع كثرة ترديدها يومياً في جميع المحطات التلفزيونية والصحافة المكتوبة ومع الكم الهائل من الخبراء الذين يحضرونهم للتعليق والتحليل بمثابة قوانين تحدد نمط سلوك الناس خلال الانتخابات.
بعض الأمثلة قد توضح الفكرة.
الأميركيون يفضلون الوسط. يركز الإعلام مثلاً على مقولة أن الأميركيين يرفضون المرشحين ممن يحملون برامج انتخابية تبتعد عن المركز (Center).
المقصود بالمركز هنا هو السياسات الاجتماعية والاقتصادية القائمة حالياً في الولايات المتحدة والتي تكرس حالة غياب العدالة الاجتماعية في سياسات الدولة.
جميع المرشحين الذين لا يطالبون بتغيير حقيقي لهذه السياسات هم أبناء المركز، بينما البعيدون عنه، الذين يطالبون بإحداث تغير جذري فيهما هم في الإعلام يصنفون على أنهم من خارج المركز.
الإعلام يعطي السياسات الموجودة حالياً صفة تمتعها بإجماع الأميركيين وكل خروج عنها يُصنف على أنه مرفوض من الأميركيين أنفسهم.
بهذه الطريقة يجري تحديد الإطار العام الذي يجري في سياقه التنافس بين المرشحين.
المسألة المهمة في الانتخابات ليست انعدام العدالة الاجتماعية، ليست الثراء الفاحش للقلة وتآكل الطبقة المتوسطة، وهي ليست سيطرة لوبيات المصالح على الانتخابات الأميركية وتقريرهم من سيكون الرئيس القادم بأموالهم كما يدعي ساندرز - فهذه الأفكار يرفضها المواطن الأميركي كما يدعي الإعلام، وهو لن ينتخب بإجماع خبراء لوبيات المصالح شخصا من خارج المركز بأفكار تحررية وتقدمية لأن المجتمع الأميركي - هكذا يقول الإعلام، محافظ بطبيعته. بمعنى يقبل بالتغير البطيء المتدرج.
على ماذا إذاً يتم التنافس بين المرشحين؟
الإعلام الأميركي يخبرنا بأنهم لا يتنافسون على برامج سياسية تختلف في مضامينها عن بعضها البعض، ولكن على قضايا على هامش السياسات العامة.
لذلك لا يبدو أن هنالك فوارق مهمة بين مرشحي الحزب الجمهوري وهيلاري كلينتون من الحزب الديمقراطي باستثناء تلك المتعلقة في الإطار العام الذي يحكم (المركز): الخلاف بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. بمعنى الخلاف تلك القضايا المتعلقة بنظام الضرائب، البيئة، التأمين الصحي، الطاقة المتجددة، وحقوق الأقليات من بين قضايا أخرى حكمت التنافس بين الحزبين منذ مطلع القرن الماضي.
الخلاف ضمن منطقة الوسط: ضرائب أقل أو أكثر، سياسات تحمي البيئة أكثر أو أقل، تأمين صحي يشمل قطاعات أكبر من الأميركيين أو قطاعات أقل، ليس فيه ما يهدد مصالح نسبة ١٪ من الأميركيين الذين يمتلكون معظم الاقتصاد الأميركي ويحددون سياساتها.
الفارق الوحيد أن الديمقراطيين يحاولون إعطاء وجه إنساني للنظام الرأسمالي بتبنيهم سياسات تحمي الحد الأدنى من مصالح الطبقة المتوسطة وفقراء الأميركيين والمهاجرين، بينما الجمهوريون أقل حرصاً منهم على ذلك وأكثر ميلاً للرأسمالية المتوحشة، حيث الثراء الفاحش بغض النظر عن نتائج ذلك على الغالبية العظمى من الأميركيين.
إذا كانت هذه حال الخلاف بين الحزبين - صراع في منطقة الوسط، فإن الخلافات بين مرشحي الحزب الواحد لا قيمة لها (بيرني ساندرز هو الاستثناء).
مثلاً، جميع مرشحي الحزب الجمهوري مع تخفيض الضرائب على أصحاب رؤوس الأموال، مع حكومة لا تتدخل في تسير الاقتصاد، مع رفض نظام التأمين الصحي الشامل، مع رفض تعديل قوانين امتلاك السلاح الناري، مع رفض اعتماد سياسات عامة لحماية البيئة، ومع رفض تقليص ميزانية وزارة الدفاع.
على ماذا يتنافسون إذاً؟ يتنافسون على هامش هذه السياسات: البعض منهم يريد خصخصة الضمان الاجتماعي، آخرون يريدون دورا أكبر للدين في المدارس، وآخرون يريدون نظام هجرة جديدا، وبعضهم يريد إغلاق الباب في وجه دخول المسلمين إلى أميركا.
المنافسة الحقيقية بينهم ليست على السياسات العامة كونهم ينتمون لنفس الحزب، لكن على المؤهلات الشخصية للرئاسة: من هو أقل عرضة منهم لضغوط أصحاب المصالح، من هو الأكثر حزماً في اتخاذ قرارات لحماية الأمن الأميركي، ومن هو الأكثر تشدداً في مواجهة الصين وروسيا.
لهذا لا غرابة مثلاً أن يردد دولاند ترامب أنه الوحيد من بين مرشحي الحزب الجمهوري الذي لا يحتاج إلى أموال أصحاب المصالح كونه مليارديرا.
الأميركيون لا يحملون الدولة مسؤولية فقر العديد منهم.
لا تتوقف صناعة النمط على التركيز على رفض الأميركيين للتغيير، لكنها تتعداها إلى خلق ثقافة أن الفقر مسؤولية شخصية.
يبدأ ذلك بتصوير الإعلام لأميركا على أنها بلاد الفرص والعمل والمشروعات: إذا كنت مثابرا، جديا، صاحب أفكار خلاقة فستكون من أصحاب الملايين.
لذلك لا يجري الحديث عن الفقر في أميركا أو عن التمييز فيها إلا عندما تفرض الأحداث نفسها على الإعلام.
الفقر ليس سببه سوء توزيع الثروة، وليس سببه أن النظام الرأسمالي منحاز في جوهره لأصحاب الثراء الفاحش، وليس سببه أن عشرات الملايين من الأميركيين غارقون في الديون بسبب القروض التي حصلوا عليها لاستكمال تعليمهم الجامعي، ولكن لأن هؤلاء الفقراء كسالى، لا يرغبون بالعمل، ولا توجد لديهم أفكار تخرجهم من الوضع البائس الذي يعيشون فيه.
الفقر يتحول إلى مسؤولية فردية: الفقير يحمل نفسه المسؤولية بسبب كسله، ومحدودية قدراته العقلية ولا يحمل المسؤولية للنظام غير العادل الذي يعيش فيه.
لهذا لم يجد حرجاً دونالد ترامب بالقول إن المليارات التي يجلس عليها أصلها (قرض بسيط قيمته مليون دولار من والده!) وكأن كل أميركي قادر مثله على الحصول على هذا القرض البسيط الخالي من الفوائد.
لكن الرجل عندما قال ذلك كان يعلم أن الإعلام الأميركي لن يسأله عن مدى بساطة القرض! ترامب كان يعلم أن الانطباع الذي سيتركه في ذهن الأميركيين أنه قصة نجاح يمكن نقلها للبيت الأبيض.
الأميركيون يدعمون إسرائيل. يركز الإعلام الأميركي أيضاً على فكرة أن هنالك إجماعا بين الأميركيين على حماية مصالح إسرائيل (ظالمة أم مظلومة).
لهذا يُخرِج الإعلام مسألة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية من دائرة النقاش ويمحوره على مسألة: من بين مرشحي الرئاسة من هو الأقرب لإسرائيل. بهذه الطريقة لا يتوقف المواطن الأميركي ليسأل: ماذا يعنينا قرب المرشح من إسرائيل من عدمه وتصبح مسألة دعم إسرائيل مفروغا منها.
لهذا تجد جميع المرشحين يدعون حبهم الشديد لإسرائيل ويتنافسون على تقديم الولاء لها دون الخوف من انعكاس ذلك على مدى قبول الأميركيين لهم.
خسارة هيلاري كلينتون مثلاً في نيوهامشير أمام ساندرز، دفع منظمي حملتها لمهاجمة ساندرز بذريعة أن حجم تأييده لإسرائيل غير معلوم بينما السياسات السابقة أثبتت أن ولاء هيلاري لمصالح إسرائيل لا تشوبه شائبة.
لم يكن هذا الحديث موجهاً لعموم الأميركيين الذين لا يعتبرون إسرائيل أحد محاور اهتمامهم، ولكنه كان موجهاً للجالية اليهودية في أميركا حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن ساندرز بدأ يكتسب تأييدا متزايدا منها. ساندرز، هو أصلاً يهودي، وهو نادراً ما يتحدث عن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وإذا اضطر لذلك فهو يكرر موقفا مقبولا للأميركيين و(للفلسطينيين أيضاً): من حق إسرائيل العيش بأمن وسلام مع جيرانها ومن حق الفلسطينيين الحصول على دولتهم والتمتع بسيادتهم.
هذا مخالف لسياسات صانعي النمط من أصحاب رؤوس الأموال وإعلامهم لأن المسألة التي يرغبون في تكريسها في ذهن الأميركي ليست الحقوق المتساوية للإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن مسألة أن دعم إسرائيل عليها إجماع شعبي بغض النظر عن سياسات إسرائيل نفسها.
وحده ساندرز يتحدى سياسات النمط ويعلن أن أميركا بحاجة لثورة تمكن المواطن الأميركي من الإدارة الفعلية للحكم فيها. علينا أن ننتظر شهراً آخر لنتأكد إن كان لمشروعه فرضة حقيقية للنجاح.


